جريدة عنب بلدي – العدد 39 – الاحد – 18-11-2012
بشير – حماه
تعود بنا الذاكرة إلى سابق عهد الثورة الأول عندما كانت سلمية خالصة، حيث كانت الأسواق لاتزال تعجّ بالناس، والمحلات التجارية وحركة المرور -خاصة في المدن الثائرة- على قدم وساق إلى وقت لا بأس به من الليل. وحالما بدأ العمل المسلح يلوح أفقه، وبدأت الكتائب في مختلف المناطق تنفذ عملياتها ضد حواجز النظام المنتشرة في طول البلاد وعرضها، ولظروفٍ أمنية أخرى عديدة، بدأت المدن تسكن ليلًا… وبدأ الناس يلتزمون البيت باكرًا، وعاد اليل ليكون لباسًا من جديد، بعد أن جعل منه الناس معاشًا قبل الثورة!
الترتيب القرآني الذي أعدّه الله لنا في المعاش النهاري والسكن الليلي هو الترتيب الأمثل لحياه ملؤها الجد والنشاط والإنجاز بلا شك. فلقد دعا النبي أمته للبكور (التبكير)، تلك البكورية التي لن تتحقق إلا بالعودة للبيت مبكرًا، وإنهاء النشاطات مبكرًا، وبالتالي النوم مبكرًا. ومن نِعَم الثورة العظيمة -والتي سنبقى نتحدث عن شمائلها العظيمة- أنها أعادتنا من حيث لا ندري إلى ذلك الترتيب الإلهي الرائع في العيش الذي طالما غفلنا عنه وعن جودته العالية ونتائجه العظيمة على الأمة.
فعندما نمعن النظر في الآيات التي تقسم لنا اليوم إلى نهار معيشي وليل سكني من قبيل قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا» أو من قبيل «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». ونقاطع تلك النصوص مع بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: «وليسعك بيتك» نلحظ تلك البركة العظيمة التي كنا نفتقدها في الجلوس ليلًا في المنزل.
كم من الأوقات كانت تضيع في التسكع ليلًا بلا فائدة تُرجى -طبعًا حديثي عن التسكع الذي تحوّل إلى طقس يومي، وليس إلى نشاط ترفيهي- فهذا السكن المبكر في البيت أبرز لنا المساحة الوقتية الكبيرة التي كنا نضيعها هنا وهناك بلا فائدة، فأصبح لكل منا اهتمامه الذي ينمّيه ويهتم به، فهذا الذي عاد للقراءة بنهم، وهذا الذي جلس يكتب، وآخر يبحث في الشبكة العنكبوتية عما يفيده، وبركاتٌ أخرى عديدة…
من جانب آخر وعلى صعيد الأسرة، أعاد الوقت الليلي المُكتسب بفعل الثورة الآباءَ والأبناءَ إلى بعضهم أكثر، فجلوس الآباء في البيوت لفترات أطول في ظلّ الثورة ، وكذلك بالنسبة للأبناء، عمّق هذا الجلوسُ الترابطَ الأسري بين الأهل والأولاد الذي كان مبددًا، فبعد أن كان الأب أو الولد الشاب يعود للبيت بعد منتصف الليل، بات الجميع الآن يلتزم البيت عند الغروب أو بعده بقليلٍ، مما زاد من فرص النقاش والحوار وربما التقارب في الأفكار بين أفراد الأسرة الواحدة، وغدا التفاعل فيما بينهم أكثر وجودًا من ذي قبل. عاد الوقت للآباء ليحنّوا على الأبناء، وعاد الاستشعار لمعاني الأبوّة والأُخوّة التي فقدت لزمن.
كنا نظنّ أن الثورة ستسقط النظام فحسب، أما الآن فإننا نراها ترسم معالم حياة جديدة، لطالما تمنيناها.