على مدى خمس ساعات ( من السعة 11 حتى 4 بعد الظهر) بقي بوتين يتحدث في مؤتمره الصحافي السنوي الخميس في 17 من الجاري ، ولم يأت على ذكر سوريا بكلمة واحدة . كما كان من اللافت أيضاً ، أن مئات الأسئلة ، التي وردت إلى بوتين من كافة أصقاع روسيا ، لم تأت كذلك على ذكر سوريا ، بل تركزت على الأوضاع الحياتية ، التي أوجزها أحد حضور القاعة من الصحافيين بسؤال وجهه لبوتين : كيف يمكن للروسي ، أن يصف حياته اليومية دون شتائم ؟ فرد عليه بوتين بقوله : شكراً ، لأنك وجهت السؤال دون شتائم.
وما شجع على توقع ذكر سوريا في هذا المؤتمر الصحافي المديد ، هو أن الأسئلة والأجوبة لم تقتصر على الوضع الداخلي الروسي ، بل طاولت أيضاً العديد من القضايا الدولية ، من الحرب الباردة الحالية وسباق التسلح ، إلى الصراع في كاراباخ وفي جمهورية مولدافيا وسواها . وما دفع أكثر لتوقع المرور على ذكر سوريا ، هو وجود وزير خارجية سوريا الجديد فيصل المقداد في موسكو في هذا اليوم بالذات ، والذي كان على موعد للقاء وزير الخارجية سيرغي لافروف ، وبحث الوضع السوري الراهن وآفاق تطوره ، بما في ذلك دفع عملية التسوية السورية إلى الأمام ، والمساعدة في عملية عودة المهجرين السوريين ، حسب تاس.
وكان الناطق الرسمي بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف قد استبق مؤتمر بوتين الصحافي ، وصرح للصحافيين من دون ذكر أية مناسبة للتصريح ، بأن روسيا بلد أساسي في تطبيع الحياة في سوريا ، وهي “التي ساعدت الشعب السوري على تحرير نفسه من الإرهابيين الدوليين” . وروسيا تواصل ، مع الأمم المتحدة وبرعايتها ، بذل كل الجهود لكي تحل التسوية السياسية أيضاً في سوريا ، وسيتم العثور ، في “إطار سوريا غير القابلة للتجزئة على النظام الأكثر ملائمة” ، من دون أن يفصح بيسكوف عن طبيعة النظام ، الذي يقصده الكرملين بكلامه ، حسب نوفوستي.
موقع “الإقتصاد اليوم” الروسي نقل عن المحادثات بين وزيري الخارجية الروسي والسوري ، بأنهما أشارا إلى المستوى الرفيع للعلاقات بين البلدين . كما نقل عن لافروف قوله ، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع الوزير السوري ، بأن الدولتين تعدان في الوقت الراهن برنامجاً إستراتيجيا طموحاً في حقل التعاون الإقتصادي ، وبأن روسيا ستواصل إرسال المساعدات الإنسانية إلى سوريا.
قبل يومين من وصول وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في زيارة عمل إلى موسكو ، نشرت صحيفة “”NG” (نيزافيسيميا غازيتا ــــ الصحيفة المستثلة) في 12 من الشهر الجاري رسالة من السفير السوري في موسكو رياض حداد ، موجهة إلى هيئة تحرير الصحيفة ، يعترض فيها على “الأمور غير الدقيقة” ، التي وردت في مقالة نشرتها الصحيفة في 9 من الشهر الجاري ، بعنوان “إيران تعد بإعادة هضبة الجولان إلى سوريا” وعنوان ثانوي “دمشق وطهران تنصبان فخاً لموسكو” . تعرّف الصحيفة كاتب المقالة إيغور سوبوتين ، بأنه مراقب الشؤون الدولية لدى رئيس التحرير . ويوجز السفير إعتراضاته على المقالة بخمس نقاط ، تهدف جميعها ، كما يبدو، إلى التمهيد لزيارة وزير الخارجية السوري إلى موسكو ، وذلك بإزالة الإنطباع ، الذي خلقته زيارة الوزير السوري الأولى له في منصبه الجديد إلى طهران ، وليس إلى موسكو.
تقول النقطة الأولى في إعتراضات السفير ، أن ما ورد في المقالة عن أن زيارة فيصل المقداد الأولى له بهذه الصفة إلى طهران ، تُظهر أولويات السياسة الخارجية لدمشق الرسمية ، هي فرضيات ليست موجودة سوى في أفكار كاتب المقالة وبعض الجهات القلقة من العلاقات المتقدمة بين سوريا وروسيا . وزيارة وزير الخارجية لبلد ما ، ترتبط فقط بالجدول الزمني للبلدين ، من دون أية إشارات سياسية.
وتشير النقطة الثانية إلى أنه ليس من المفهوم ما الذي يعنيه الكاتب بالقول ، أن الجولان السورية المحتلة أصبحت مصدر مشاكل في الفترة الأخيرة . هذا مع العلم ، أن الجولان أرض سورية إحتلتها إسرائيل العام 1967 ، ويضمن القانون الدولي حق سكانها بمقاومة المحتلين ، وذلك في إشارة من السفير إلى مظاهرات سكان مناطق في الجولان ضد مشروع إسرائيل نصب أعمدة مراوح هوائية لتوليد الطاقة الكهربائية في الأراضي الخاصة للسكان . وتعترض النقطة الثالثة على رأي بوليتولوج (خبير المجلس الروسي للعلاقات الخارجية كيريل سيميونوف) إستضافه الكاتب ويقول ، بأن زيارة الوزير السوري إلى إيران تُظهر من هو الحليف الرئيسي للحكومة السورية ، وأن القيادة السورية عازمة على البقاء أحد عناصر محور المقاومة . وهنا يعود الكاتب ، برأي السفير ، إلى الرأي القائل بأن زيارة الوزير إلى إيران ترتدي طابع المقارنة بين الحلفاء ، وبأن علاقات سوريا بإيران تتناقض مع علاقاتها المميزة بروسيا. وهذا تشويه للوقائع، لأن العلاقات السورية الإيرانية قائمة منذ أربعين عاماً ، ولم تتناقض يوماً مع العلاقات السورية الروسية ( في النص الروسي ــــــــ العلاقات الروسية الإيرانية) القائمة منذ سبعين عاماً.
ويقول السفير ، بأن المقالة تتضمن سوء فهم لإتفاقية الهدنة العام 2018 في المنطقة الجنوبية ، حيث يقول الكاتب ، بأن هدف الإتفاقية كان يتمثل في دمج المنتفضين السابقين في القوات الرسمية من أجل مواصلة القتال ضد المقاتلين من فصائل الدولة الإسلامية . وكان يُنظر إلى الإحتفاظ بهم في الجنوب ك”منطقة سنية عازلة” ضد الوجود الشيعي في هذه المنطقة ، علماً أن الإتفاقية بشأن المنطقة الجنوبية قد عُقدت في سياق مراسيم حول المصالحة الوطنية بمبادرة من الحكومة السورية لكل من حمل السلاح ، بغية وقف إراقة الدماء بين السوريين.
وتقول النقطة الخامسة ، أن الكاتب يؤكد في مقالته أن الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية كانت نتيجة للوجود الكثيف لخلايا حزب الله المحلية . ويشير هذا إلى توهمه الخطير وتقبله للبروباغندا الإسرائيلية ، التي تحاول تبرير الهجمات غير القانونية على الأراضي السورية ، بغية دعم المجموعات الإرهابية المسلحة ومدها بالزخم ، بعد تعرضها للهزائم المتتالية على يد الجيش السوري والضربات الجوية الروسية.
ليست كثيرة الحالات ، التي تعمد فيها سفارة عربية للتعليق على مقالة في صحيفة روسية ، سيما وأن الصحيفة لا تعبر عن رأي رسمي ، وليس من المعروف عنها أنها مقربة من أي جهة وازنة في مؤسسات السلطة الروسية ، وإن كانت من الصحف ، التي تدور في فلك الكرملين . ومن المعروف عن هذه الصحيفة، التي تسمي نفسها مستقلة ، بأنها “تؤجر” صفحاتها لمن يدفع ، حتى بلغ بها الأمر أن نشرت يوماً مقالة للمعارض الشهير للكرملين ميخائيل خودوركوفسكي المنفي من روسيا ، بعد أن قضى في سجونها عشر سنوات.
لكن ما دفع السفير السوري، كما يبدو، إلى مثل هذه الخطوة النادرة في عمل الدبلوماسيين العرب في الخارج ، هو الحرج أمام موسكو ، الذي خلقته زيارة وزير الخارجية السوري إلى إيران قبل زيارته موسكو. وهذا ما دفع كبار المسؤولين الروس إلى التذكير بدور روسيا في إنقاذ النظام السوري من الإنهيار ، كما فعل الناطق بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف ، من دون وجود أية مناسبة للإدلاء بتصريحه المذكور أعلاه . أو ما صرح به لافروف في مؤتمره الصحافي مع نظيره السوري فيصل المقداد ، الذي يبقى السؤال مطروحاً ما إن كان قد نجح في زيارته بإزالة “العتب” الروسي ، الذي خلفته زيارته الإيرانية.