من المحتمل جداً أن يكون أصدقاء لبشار الأسد في واشنطن قد بادروا إلى التواصل مع فريق الرئيس جو بايدن قبل انتخابه، وهذا مباح كما نعلم وفق التقاليد السياسية الأمريكية التي تعتمد فكرة “اللوبي”، وكانت جماعات الضغط السورية المناهضة لبشار قد تواصلت مع مستشاري بايدن، إنما تحت الأضواء لا خلفها. على أية حال، يصعب حالياً أن تظهر في واشنطن شخصيات مؤثرة تجهر بتأييدها لبشار، من دون استبعاد وجود هذا الاحتمال في الكواليس، لكن الأشدّ تأثيراً قد يكون هؤلاء الذين يقدّمون أفكاراً تظهر بريئة وحيادية تماماً، أفكاراً تظهر صائبة “تقنياً”، لتصب في مصلحته من دون التصريح بذلك.
روبرت فورد، آخر سفير لأمريكا في دمشق، واحد من أولئك الدبلوماسيين الذين يحرصون على إظهار أفكارهم منطقيةً وحيادية، مع لمسة إشفاق “لا بد منها” على المدنيين السوريين. آراء الرجل يتم تداولها بوصفه خبيراً في الشأن السوري، وهو تشبّث بقوة بهذه المكانة إلى درجة ننسى معها خدمته الدبلوماسية السابقة في العديد من الدول العربية، ومنها العراق في وقت حساس بين عامي 2004 و2006. تقاعدَ فورد من وظيفته في نهاية شباط2014، ونُقل عنه حينها انتقاده سياسة إدارة أوباما، إلا أنه كذّب الكلام المتداول على لسانه، وكان عقب مغادرته دمشق في تشرين الأول2011 قد تعهد بمواصلة العمل مع زملائه في واشنطن على دعم “الانتقال السلمي للحكم”.
شهد فورد عن كثب، أثناء تسلّمه الملف السوري، كيفية تعامل إدارة أوباما مع مجزرة الكيماوي التي ارتكبها بشار، وكيف تراجعت إدارته عن خطّها الأحمر، من دون أن يُقدِم على بادرة احتجاج من نوع الاستقالة، وحتى عندما أتت الأخيرة بعد أشهر فقد كان مرشّحاً ليكون سفيراً في القاهرة، ما يكشف عن الرضا الذي كان يحوزه في إدارة أوباما. فورد أيضاً لا يحمل إحساساً بالذنب تجاه السوريين، فهو قد وجّه بعد تقاعده في بعض المناسبات انتقادات خفيفة لإدارته، مقابل انتقادات أقسى للمعارضة السورية التي لم تستوعب التوجهات الفعلية لإدارة أوباما، فضلاً عما تستحقه من نقد على مجمل أدائها.
تنصّلَ فورد من المعنى العميق للاعتذار بالإيحاء بأنه مجرد موظف ينفّذ سياسة حكومته، بل إنه “لعميق حرصه على السوريين” تجاوز حدود تفويضه بأن حاول إفهام المعارضة السورية أن لا تعوّل على دعم حاسم من واشنطن. ومع الإقرار بأنه لم يكن ليستطيع رسم سياسة أوباما إزاء سوريا، وارتباطها بمفاوضاته مع طهران، فإن هذا لا يعفي فورد لأنه لم يمتلك شرف محاولة تغيير تلك السياسات، ولم يمتلك روح القتال ليرتقي من موظف صغير إلى مدافع عن قضية، ولو فعل لم يكن سيسجل سابقة في العمل الدبلوماسي الذي يحفظ تاريخه شخصيات ناصرت بقوة قضايا محقة مع تمثيلها مصالح بلادها.
مقال فورد بعنوان “هل اقتربت أمريكا من الانتصار في سوريا؟”، نُشر في جريدة الشرق الأوسط 16/12/2020، نموذجٌ يكاد يختصر العقلية التي يمثّلها صاحب المقال ونظراؤه، ورغم أنهم لا يرسمون مباشرة السياسات الكبرى إلا أنهم يساعدون في الإعداد لها، أو في التسليم بها كخيار وحيد أو أمثل. يكتب فورد بانتظام في الجريدة المذكورة، ولا يغيب الشأن السوري عن كتاباته، لكن للمقال الأخير مغزى أكثر خصوصية، إذ يأتي مع تهيئة الرئيس بايدن فريقه الرئاسي، ومع الانتقال المفترض من سياسة خارجية جمهورية إلى ديموقراطية، ليكون المقال خاصاً أيضاً لجهة استعراضه ما فعلته إدارة ترامب وما يمكن لإدارة بايدن فعله، أو يتوجب عليها ذلك.
يبدأ فورد مقاله من تفنيد تصريح أمام إحدى لجان الكونغرس لمسؤول في وزارة الخارجية، يقول فيه أن الهزيمة التامة لداعش وانسحاب القوات الإيرانية، مع الوصول إلى تسوية سياسية في سوريا، باتت جميعاً في المتناول. أما تعليق فورد الذي يليه مباشرة فهو أنه لا يلمس أية إنجازات تساعد الجانب الأمريكي على المدى البعيد، أو ربما تساعد السواد الأعظم من المدنيين السوريين في شيء. بعد الاستهلال سنكون إزاء نقد لمجمل سياسات إدارة ترامب، مثل العلاقة مع قسد والعقوبات بموجب قانون قيصر، وصولاً إلى تكذيب زعم الانتصار على داعش، بما أن الأخير استأنف مؤخراً عملياته العسكرية ضد قوات الأسد.
في تفاصيل المقال؛ لدينا سياسة أمريكية فاشلة، إذ لا تموّل قسد وتجعلها تعتمد على العائدات النفطية، فضلاً عن أن سيطرة القوات الأمريكية على آبار النفط تزيد من الضغوط المالية على سلطة الأسد. هنا يربط فورد بين هذا الجانب والعقوبات الأخرى بموجب قيصر وطوابير السوريين من أجل شراء الاحتياجات الأساسية التي لا يمكن اعتبارها نجاحاً للسياسة الأمريكية، مع تنويهه بأن سلطة الأسد لا تقبل الإصلاح أو المساءلة. من دون أن نكون في موقع المساند لعقوبات تهدد لقمة المدنيين؛ يتعمد فورد تجاهل رغبة ترامب “التي عبّر عنها مرات عديدة” في الانسحاب من سوريا، واستدعى إقناعه بالبقاء أن يكون بلا تكلفة مالية، أي أن تتموّل قسد من إيرادات النفط، ومن المعلوم أن تجارة النفط الأساسية لقسد هي مع سلطة الأسد نفسها بترخيص من إدارة ترامب، ما يدحض فكرة الحصار الخانق.
أما تكذيب الانتصار على داعش فهو يدخل أولاً في باب الدحض الشكلاني، فالانتصار التام غير موجود بما أن التنظيم ينشط في أماكن أخرى، حتى إذا كانت هذه الأماكن خاضعة لموسكو بموجب خريطة تقاسم النفوذ، وحتى إذا كانت الأخيرة لا تتولى مسؤوليتها كما يجب في مكافحته. لقد رأينا مثلاً غارات أمريكية استهدفت قادة على صلة بتنظيم القاعدة في إدلب، وهذا ما لا تستطيع فعله في أماكن سيطرة موسكو ومجالها الجوي. لا يقفز فورد فقط عن عدم قيام قوات الأسد وموسكو بمحاربة داعش جدياً على منوال محاربتهما مع طهران باقي الفصائل، بل يبدو كأنه يدفعنا خفية إلى استنتاج لا يريد التصريح به، وهو ضرورة تعاون هذه الأطراف من أجل إنزال الهزيمة التامة بداعش.
هو يعتبر أن تهديد داعش الغربَ سواء بسواء أينما وجد، وإذ ينوّه بزيادة العمليات التي تشنّها قوات الأسد ضده مؤخراً فهو يعود إلى العقوبات الاقتصادية، بعد إسهاب في الحديث عن آثارها المعيشية، ليقول أنها “تقلل من الموارد المتاحة أمام الحكومة السورية لمحاربة تنظيم داعش”. إننا، من طرف خفي، أمام دعوة لرفع حتى العقوبات التي تؤثر على “المجهود الحربي” لقوات الأسد تحت زعم الحرب على داعش، والحق أن هذا المنسوب من التسهيل أو الدعم أعلى مما يطمح إليه بشار موسكو حالياً.
لا ينسى فورد الهجمات التي تشنها قوات الأسد على إدلب وتتسبب بمقتل المدنيين. “إنه نظام وحشي مسؤول عن الكثير من جرائم الحرب والمجازر المدنية. ولكن، ليس هناك في سوريا ما يمكن وصفه باليسير أو البسيط”. هذه الفقرة من نهاية المقال يجوز لنا اختصارها بـ”ولكن” وما يليها، إلا أنه “تأكيداً على عدم وجود ما هو بسيط أو سهل” يستأنف بأن الإجراءات الأمريكية الرامية لإجبار الأسد على تقديم تنازلات سياسية، ووقف الهجمات على المدنيين، هذه الإجراءات تلحق الأذى بالمدنيين، وتعقّد مجريات القتال ضد الإرهاب! ثم يضع هذه الخلاصة صراحة أمام إدارة بايدن، لتقرر بناء عليها ما يمكن وما لا يمكن لها إنجازه في سوريا.
إننا مع مثل هذا المقال نكاد نصل إلى ضرورة وأولوية تمكين بشار الأسد لرفع المعاناة المعيشية عن السوريين، وأيضاً لهزيمة الإرهاب! ومع أمثال فورد، نكاد نغفر لأوباما سياساته، لا لصوابها أو عدمه وإنما أيضاً لأنها تعبّر عن تيار دبلوماسي أمريكي، تيار قد يتجاوز الانقسام بين ديموقراطيين وجمهوريين، ففورد نفسه كان سفيراً في عهد الجمهوري جورج بوش الابن وفي عهد الديموقراطي أوباما، وها هو كأنما يعرض بضاعته على الإدارة المقبلة. هذا النمط من التفكير، الموجود في العديد من دوائر الدبلوماسية الغربية هو خير حليف لبشار وأمثاله من طغاة المنطقة، فهو لا يتقنّع فقط بمنطق انتقائي يقود إلى دعمهم، بل يتمتع بمستوى من الصلافة والعجرفة بحيث يطرح ذاته الصواب الوحيد، وعلينا نحن خاصة “أبناء المنطقة وضحايا الطغاة وحلفائهم” أن نتخذ في المقابل منه وضعية التلميذ الذي لا يدرك مصلحته بقدر ما يدركها هؤلاء. كأن روبرت فورد، على نحو خاص، استمرأ وضعية الأستاذ التي أتيحت له مع قياديين في المعارضة السورية، ويعزّ عليه التفريط بهذا المجد.