إهمال حكومي وعادات اجتماعية.. الصحة النفسية ليست أولوية في سوريا

  • 2020/12/20
  • 9:34 ص

طفلة سورية لاجئة في غازي عنتاب جنوبي تركيا- 12 من أيلول 2015 (afeinkolik Shutterstock)

ديانا رحيمة | سكينة مهدي | لؤي رحيباني | صالح ملص

“كنتُ طفلة وعمري 15 عامًا عندما بدأت حالة الاكتئاب تراودني باستمرار، كنتُ ألهي نفسي بالدراسة وأتناسى تلك الحالة أحيانًا، لكنني لم أعطِ بالًا للأعراض التي كنتُ أمر بها”.

لم تلجأ زينة، التي طلبت عدم ذكر اسمها الكامل، إلى اختصاصي أو طبيب نفسي حين مرت بحالة نفسية سيئة، بل كانت تتحدث في بعض الأوقات مع مدرّسيها لتفريغ ما يجول بخاطرها لتشعر بالقليل من التحسن المؤقت.

زينة التي بلغت 31 عامًا هذه السنة، تحدثت إلى عنب بلدي عن ترددها في الذهاب إلى طبيب نفسي مختص للاستشارة، فبرأي محيطها الاجتماعي في مدينة حلب، شمالي سوريا، الطبيب النفسي “دكتور مجانين”، فلم تكن المراجعة النفسية فكرة مقبولة في ذلك الوقت، ولم تكن تجرؤ حتى على الإفصاح عن إحساسها بالألم والاكتئاب أمام أهلها أو الناس، بحسب ما قالته.

استمر الاضطراب النفسي لدى زينة عدة سنوات، وبدأت إفرازات ذلك الاضطراب تبدأ بالظهور على صحتها الجسدية، كخسارة كبيرة في الوزن، وعدم رغبتها في النهوض من سريرها في كثير من الأوقات، والإرهاق العام.

بعد الأعراض الشديدة، لم تستطع زينة الاستمرار بتجاهل الحالة، فلجأت إلى مختصين ومعالجين اجتماعيين عبر الإنترنت، وكان عمرها 25 عامًا، “لم يكن في سوريا أطباء ومعالجون معروفون وموثوقون، ولم أثق بالأدوية التي يصفونها للمرضى، خاصة تلك التي تحتوي على نسبة مخدر”، قالت زينة.

لم ترغب زينة في الذهاب إلى طبيب نفسي لأخذ الاستشارة أو المعالجة، لعدم ثقتها بتبادل مشاعر أو أفكار أو وقائع عاشتها تعتبرها من دوائر الخصوصية مع أشخاص غرباء، حتى ولو كانوا أطباء متخصصين بمعالجة الاضطرابات النفسية.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف مسألة العلاج النفسي في سوريا من نظرة مجتمعية، ومدى أولوية علاج الأزمات النفسية لدى الأفراد، خصوصًا أن أطباء نفسيين حذروا من “تسونامي أمراض نفسية” بسبب الإغلاق والحجر المنزلي الذي شهده العام الحالي كإجراء احترازي من انتشار جائحة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).

أزمات الواقع تنعكس على صحتهم

محاولات للخروج من عتمة الاضطراب النفسي

خلال عدة جلسات استشارية مع معالجين اجتماعيين عبر الإنترنت، ما زالت زينة مستمرة إلى اليوم بإجرائها، استطاعت التغلب على “اضطراب الاكتئاب المزمن”، بحسب قولها، والذي شُخصت إصابتها به قبل سنوات قليلة.

وعرّفت مذكرة منظمة “يونيسف” بشأن الصحة العقلية مصطلح الدعم النفسي- الاجتماعي، بأنه حالة يُدرك فيها كل فرد إمكاناته الخاصة، من خلال الدعم المحلي لتعزيز السلامة النفسية- الاجتماعية عند الفرد، ليمكّنه ذلك من التعامل مع ضغوط الحياة اليومية، لمساعدته في الإنتاج بشكل مثمر، والإسهام في مجتمعه.

مجموعة من الشباب السوريين يدخنون السجائر في جنوبي دمشقي- 2 من شباط 2018 (عدسة شاب دمشقي)

وتُعتبر الفئات الأشد ضعفًا في المجتمع أكثر حاجة للدعم النفسي- الاجتماعي بمستوياته المختلفة، مثل فئة الأطفال، والمراهقين، وذوي الإعاقة، والنساء الوحيدات والمعيلات لأسرهن، والناجين من التعذيب والعنف الجنسي، والأفراد الذين يعانون اضطرابات نفسية مشخصة سابقًا.

والعلاج النفسي عبر الإنترنت الذي يرتكز على التفاعل بين شخصين يكون شكلًا من أشكال المحادثة، وأطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا (UNDP) خدمة لتوفير الدعم النفسي- الاجتماعي للسكان، في آب الماضي، أسماها “فضفضة”.

وجاء في إعلان إطلاق الخدمة، بحسب موقع الخدمة، أن “فضفضة” خدمة يقدمها مختصون بمجالات مختلفة لتوفير الدعم النفسي- الاجتماعي لمن هم تحت سن 18 عامًا.

ونشر البرنامج رابطًا للتسجيل والاستفادة من الخدمة، وتعهد بالحفاظ على سرية المعلومات.

وكتب موقع الخدمة أن الظروف الصعبة وآثار التحديات التي يمر بها الإنسان خلال يومه تخلق خوفًا واكتئابًا وخجلًا وفقدان سيطرة على الأعصاب، وحزنًا ومشاعر وحالات غيرها تترافق مع شهية للأكل، وعدم التركيز، ومشاكل مع العائلة والأصدقاء والزملاء.

ولأن طلب المساعدة ليس عيبًا، بحسب الموقع، يعتبر “فضفضة” المكان المناسب لسرد المعاناة لاختصاصيين نفسيين وأطباء، يساعدون على تخطي الحالة التي زادت بسبب الأخبار التي يمر بها ويعيشها الجميع.

الانتكاسات المتتالية ضاعفت من الأزمات النفسية

دخل إبراهيم العايد (54 عامًا) حالة من الاضطراب النفسي بسبب عدة أزمات متتالية عاشها خلال السنوات القليلة الماضية، بحسب ما قاله لعنب بلدي، فمن انفصاله من وظيفته الحكومية بسبب اعتقاله لمدة ثلاثة أشهر في عام 2011، إلى خسارة أولاده الأربعة دراستهم، نهاية بفقدانه الكثير من ماله لتأمين معيشة عائلته، قرر إبراهيم زيارة طبيب نفسي، ولكن لم يحصل على استشارة نفسية مناسبة بسبب التكاليف التي يحتاج إليها ذلك.

وتأتي الاضطرابات النفسية نتيجة “انهيار قدرة الفرد على التعامل مع الأزمة الاقتصادية الحادة التي تشهدها البلاد في الآونة الأخيرة”، من وجهة نظر الاختصاصية النفسية السورية سلوى عرابي، في حديث سابق إلى عنب بلدي، “فبمجرد شعور الإنسان بفقدان الاستقرار المادي، يولد لديه عدم استقرار نفسي”، كنتيجة لتردي الوضع المعيشي لديه.

وهبطت الليرة السورية في العام الحالي إلى مستوى لم تشهده في تاريخها من قبل، لتتأثر الأسواق السورية بتلك الانتكاسات المتتالية لعملتها، ما أدى إلى ارتفاع جديد بالأسعار، وتردي الوضع المعيشي المتأزم أصلًا في مختلف مناطق سوريا.

وفي مدينة إدلب شمالي سوريا، تعيش فاطمة التي تبلغ من العمر 40 عامًا وطلبت عدم ذكر اسمها الكامل في حديثها إلى عنب بلدي، وهي أم لخمسة أطفال، كانت تشتكي من آلام وأوجاع متفرقة في جسمها غير مفسرة بالنسبة لها، ولم تكن تعاني من أي أمراض مزمنة، وعندما زارت طبيب داخلية، أحالها إلى مكتب الدعم النفسي في مركز “عائدون” الطبي، بعد أن تبين له إحساسها بالوحدة والحزن الشديد.

تواصلت عنب بلدي مع إدارة المركز، وقال إن فاطمة تشعر بالوحدة بعد أن تزوج أولادها وتركوها وحيدة، وكانت فاطمة تزوجت دون رغبة أهلها، فمنعها زوجها من زيارتهم أو التواصل معهم، وكانت تعاني من “عصبية” زوجها التي دائمًا ما تتسبب لها بمشاكل معه.

لم تعد فاطمة تزور عائلتها أو أصدقاءها، و”أصبحت ذات سلوك انطوائي وعاجزة عن القيام حتى بأبسط الأعمال المنزلية”، وفق ما ذكرته إدارة المركز.

ويُرجع الاستشاري في الصحة النفسية وائل الراس، في حديث إلى عنب بلدي، سبب الاضطرابات النفسية لدى بعض السيدات، وعزمهن على الانتحار في بعض الحالات، إلى العنف المنزلي الذي ارتفع خلال فترة الحجر الصحي في ظل انتشار فيروس “كورونا”.

والعنف المنزلي، بحسب الراس، يولّد آثارًا نفسية لدى المرأة، نتيجة الضرب أو الشتم أو الحبس في المنزل أو حتى التهديد بالعنف وإذلالها، تلك السلوكيات تدفع المرأة للشعور بالدونية تجاه ذاتها وخيبة الأمل، ويكون هذا الشعور مصاحبًا للضغوط النفسية فيصبح الدافع للانتحار كاملًا.

وبعد خضوعها لعدة جلسات مع المختص الذي شرح لها برنامج معالجة منتظمًا لتلتزم به، بدأت حالة فاطمة بالتحسن بنسبة قاربت 45%، وعادت إلى حياتها الطبيعية نسبيًا بالمقارنة بما كانت عليه سابقًا.

رجل يركب دراجة هوائية في جنوبي دمشق- 26 من كانون الثاني 2018 (عدسة شاب دمشقي)

استطلاع رأي: العلاج كخيار لمواجهة الاضطرابات النفسية

بحسب استطلاع أجرته عنب بلدي عبر موقعها الإلكتروني، شارك فيه 366 شخصًا، قال أغلبية المصوتين، إنهم في حال عاشوا تحربة سيئة أفرزت أزمة نفسية عانوا منها فسوف يذهبون إلى العلاج أو تلقي الدعم النفسي- الاجتماعي من قبل مراكز مختصة.

واعتبر 57% منهم أن العلاج النفسي أولوية لديهم لتخطي أي اضطراب نفسي يعانون منه.

في حين رأى 43% منهم أن العلاج النفسي لن يكون خيارهم في حال واجهوا أي مصاعب أو اضطرابات نفسية خلال تجاربهم اليومية.

من بينها عدم الثقة في العلاقة العلاجية

أسباب تمنع الأفراد من بدء خطوات تجاه الاستشارة النفسية

محمد السلوم- باحث اجتماعي

يعاني ملايين السوريين من تأثيرات النزاع في سوريا، ما أدى إلى اضطرابات في الصحة العقلية وأزمات نفسية- اجتماعية، نتيجة تزايد تجارب العنف المرتبطة بالنزاع والمخاوف المستمرة من الوضع السوري، ويضاف إليها الضغوط اليومية للنزوح، والفقر ونقص الحاجات الأساسية والخدمات، ومخاطر العنف والاستغلال المستمرة، والعزلة، والتمييز، وفقدان دعم الأسرة والمجتمع، فضلًا عن غياب اليقين بشأن الخطط المستقبلية الواضحة.

ويعاني سوريون من الشعور المستمر بالخسارة والحزن، سواء خسارة أفراد الأسرة المتوفين أو الخسائر المادية وخسارة العلاقات، فسلامة العائلة تشكل ضغطًا نفسيًا كبيرًا، وغالبًا ما يبحث النازحون داخل سوريا واللاجئون خارجها عن أخبار أحبتهم والاطمئنان عليهم، لكنهم يعانون بالمقابل من المعلومات المشوشة وعدم اليقين، فضلًا عمن يكون لديهم أقارب أو أصدقاء معتقلون أو مختفون قسريًا.

وأبرز الضحايا لهذا الاضطرابات النفسية- الاجتماعية هم غالبًا الأطفال، لا سيما أن ما يزيد على مليوني طفل قد اضطروا للهرب ومواجهة صدمة الانتقال داخل سوريا، في حين هُجّر ما يقارب مليون طفل آخر.

ومن أهم الأسباب التي يُمكن أن تمنع الأفراد في سوريا من اللجوء إلى طلب الاستشارة النفسية في المراكز المختصة، هو تدني المستوى المعيشي لدى فئة كبيرة من الناس، خاصة في العام الحالي الذي شهد عقوبات اقتصادية أثرت على الليرة السورية، وبالتالي فإن الطبقة الوسطى في المجتمع السوري خسرت كثيرًا من رأس مالها وأبنائها الذين هاجروا ولجؤوا إلى بلدان عربية وغربية، وبذلك حصل تفاوت طبقي بعودة الطبقة الوسطى إلى الطبقة الدنيا (الفقيرة) في المجتمع.

والدعم النفسي- الاجتماعي هو حاجة طبيعية لدى كل فرد، لكن ثقافة العلاج النفسي غير منتشرة وغائبة عن المجتمع السوري، لأن الناس يعتقدون أنه خاص بأشخاص مصابين بأمراض عقلية، لكن ليس هناك حد فاصل بين الأمراض النفسية والعقلية لأن كلًا منهما يؤثر في الآخر.

والعلاج النفسي هو جزء من جوانب حياة الفرد، ويغطي كل احتياجاته من تقديم المساعدة للشخص إن كانت مادية أو طبية أو معنوية أو غيرها.

ونتيجة ثقافات تربينا عليها كانت تصوّر بأن الشخص الذي يلجأ إلى الطبيب النفسي هو شخص مجنون، فالمجتمع يضع وصمة العار على المرضى وذويهم، وهو أمر غير صحيح أبدًا، لأن الشخص يجب أن يدرك واقع الأزمات التي يمر بها سواء كانت جسدية أو نفسية، وعدم إنكار ذلك.

وهناك سبب مهم يمنع بعض الأفراد من الذهاب إلى الطبيب النفسي، حتى وإن كانوا واعين لأهمية العلاج النفسي أو قادرين ماديًا على ذلك، وهو عدم ثقة بعض الأفراد بالعلاقة العلاجية بينهم وبين الطبيب، وهذا يؤثر على واقع الفرد المتأزم نفسيًا الذي يعيشه يوميًا في مراكز دعم العلاج النفسي.

ولجعل المريض يخرج من أزمته النفسية، وهو هدف كل علاج نفسي، يجب أن تُبنى علاقة الطبيب بمريضه على مفهوم الثقة والوفاء والاطمئنان، وهذه المفاهيم هي أولوية لخلق تفاعل إيجابي في العلاقة العلاجية، وهي من ضمن توقعات أي شخص اعتبر الطبيب النفسي هو الملجأ الأخير لإنقاذ حياته من الضياع حينما قرر بدء الاستشارة النفسية.

المجتمع السوري أفرز “معتقدات خاطئة” أضرت بصحته النفسية

النظرة المجتمعية في سوريا حول المرض النفسي خُلقت من قبل المجتمع نفسه، فبحسب ما أوضحه الطبيب النفسي في مركز “غازي للصحة النفسية” في تركيا جلال نوفل، لعنب بلدي، هناك اعتقادات خاطئة حول الطب النفسي، لافتًا إلى أنها ليست مقتصرة على فئة معيّنة في المجتمع السوري، إذ تتأثر بالمعتقدات الدينية على اختلافها والاعتقادات الخاطئة.

وقال نوفل، إن “هناك الكثير من الناس يظنون أن المشكلات النفسية تتعلق بضعف الشخصية أو ضعف الإيمان أو بقوتهما، وبالتالي يلجؤون إلى الجهات الاجتماعية التي تقابل معتقداتهم، كالذهاب إلى رجال الدين عند الاعتقاد أن المسألة متعلقة بالإيمان”.

وأضاف الطبيب جلال نوفل أن ضعيف الشخصية قد يلجأ إلى المجتمع، الذي ربما يوجه نصائح ضارة، مثل “أنت ضعيف الشخصية يجب أن تكون أقوى وأفضل”، مشيرًا إلى أن هذا النوع من النصائح يجعل الشخص (الذي هو جزء من المجتمع)، يؤمن بهذه الاعتقادات، ولو بعقله الباطن، وهو ما يؤخر ذهابه إلى العلاج النفسي.

ونتيجة لتراجع التعليم والتماسك الاجتماعي والفهم العقلاني في سوريا، فضلًا عن تراجع كمّ ونوع مؤسسات الصحة في البلاد، أصبح الناس يلجؤون إلى مواردهم المحلية المألوفة (رجال دين، خزعبلات، جهات تدّعي الاختصاص بالعلاج النفسي)، والتي تؤدي إلى مفاهيم وأساليب خاطئة، بحسب قول الطبيب جلال نوفل، وبالتالي إلى آثار سلبية في العلاج.

“الحرب حطمت الأطر العقلانية للمجتمع، فباتوا يلجؤون إلى طرق غير عقلانية للعلاج”، وفق ما قاله نوفل، مبينًا أنه لا يمكن قياس الحالة السورية في الوقت الحالي، بسبب أن المجتمع السوري في حالة نزاع أدت إلى آثار مدمرة للصحة النفسية والموارد الصحية المحلية (القطاع الصحي)، وعند قياس حجم المشكلات النفسية في سوريا، تأتي أكبر بكثير من الموارد الصحية المتاحة.

أما في حالة المجتمعات المترابطة والمتماسكة اجتماعيًا، فيتبادل الناس أفضل خبراتهم فيما بينهم، وهو ما يؤدي إلى حلول تقود إلى موارد وملاجئ صحية وإيجابية، بحسب نوفل.

بسبب غياب ثقافة الصحة النفسية

خدمات طبية نفسية غير فعالة في شمال غربي سوريا

تعاني المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في شمال غربي سوريا من سوء الخدمات الطبية المعنية بمعالجة الأزمات النفسية- الاجتماعية، فوفق ما قاله المسؤول عن برامج الدعم النفسي في منظمة “سامز” الفاعلة في الشمال السوري، سامر السيد علي، لعنب بلدي، “لا يوجد سوى طبيبين نفسيين في شمال غربي سوريا، يعملان في مركزي الصحة النفسية بسرمدا واعزاز، ويقدمان خدمات الصحة النفسية التخصصية للحالات الشديدة والمتوسطة”.

وتقدم المنظمات المعنية بالدعم النفسي- الاجتماعي في مناطق شمال غربي سوريا خدمات المعالجة من خلال توظيف داعمين نفسيين- اجتماعيين دُربوا على تقديم الجلسات الفردية والجلسات الجماعية، وتقديم جلسات التوعية حول مواضيع الصحة النفسية، وفق ما أوضحه السيد علي.

وتدرب الداعمون النفسيون في منظمة “سامز” السورية- الأمريكية على منهج إدارة المشكلات المطور  (+PM)من قبل منظمة الصحة العالمية، وتدريبات الوقاية من الانتحار، وتدريبات اكتئاب ما بعد الولادة، بالتعاون بين منظمة الصحة العالمية والمجموعة التقنية للصحة النفسية والمنظمات المحلية، بحسب ما قاله السيد علي.

وقامت المنظمة بمبادرة تتضمن تصميم منهاج تعليمي للداعمين النفسيين سوف يتم إنجازه خلال الأشهر الستة المقبلة، بحسب ما قاله السيد علي، كما ستقوم المنظمة بتدريب 30 امرأة من المجتمع على منهج متطور، وهو نهج علاج العناصر المشتركة (Common elements treatment approach) بالتعاون مع جامعة “جون هوبكنز” البريطانية، وسيستمر لمدة سنتين من التدريب والإشراف، على مستوى الصحة النفسية والعلاج النفسي الدوائي.

والنقص الحاصل في توفر الأطباء النفسيين ضمن مناطق الشمال السوري دفع منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع شركائها من المنظمات المحلية إلى تدريب الأطباء على منهج “رأب الفجوة في الصحة النفسية”، الذي يؤهل الأطباء غير المختصين لتقديم العلاج النفسي للحالات المتوسطة للاضطرابات والأكثر شيوعًا.

وتعتبر قلة عدد الأطباء النفسيين والمعالجين النفسيين المدربين على تقديم العلاج النفسي اللادوائي في “سامز” هو أحد التحديات الكبرى التي تواجهها المنظمة، كما أن العلاج اللادوائي هو الفجوة الكبيرة في خدمات الصحة النفسية التي تحتاج إلى التطوير بشكل كبير، وفق رأي السيد علي.

كما قال المعالج النفسي ومنسق الصحة النفسية في منظمة “أوسوم” العاملة في شمال غربي سوريا، بشر الحاج حسين، لعنب بلدي، “كان عمل المنظمة صعبًا لنقص الخبرات في الأزمات، إضافة إلى غياب ثقافة الصحة النفسية في المجتمع السوري من قبل الثورة”.

وكانت الصحة النفسية ترتبط بالمرض النفسي أي بالمصحات النفسية حصرًا، وفق رأي الحاج حسين، الأمر الذي أثر على عدم استجابة الناس لقسم الدعم النفسي في الماضي، ولم يكن له هذا الدور الفاعل.

ومع الوقت، انتظمت الاستجابة النفسية وأصبحت تعتمد على معايير عالمية، وتوضحت أدوار العاملين في هذا المجال، وبدأ الأثر الحقيقي لهذه المنظمات يظهر على المجتمع السوري.

طفل يسير وسط مياه الأمطار التي تتركز في مخيم حلب لبيه- 24 من نيسان (عنب بلدي)

خدمات متنوعة

وتعتمد منظمة “أوسوم”، بحسب الحاج حسين، أكثر من شكل في العلاج النفسي، بدءًا من الحالات الشديدة التي تتطلب الاستشفاء بالإقامة المؤقتة في المستشفى، إلى الحالات المتوسطة.

إضافة إلى تقديم خدمة الاستشارة النفسية عبر الهاتف، لتسهيل تطبيق الخدمة خلال انتشار فيروس “كورونا” من قبل فريق مختص ومكوّن من ثمانية عاملين نفسيين يغطون معظم المناطق لتسهيل وصول الخدمة إلى المنازل، وهي “اتصالات مضمونة السرية، ولها معاييرها العالمية المعتمدة”، وفق الحاج حسين.

كما تقدم المنظمة خدمات الصحة النفسية المدمجة بعيادات الرعاية الصحية الأولية (المستوصفات) التي تتجلى بـ17 عيادة في الشمال السوري، وتعتمد عملية الدمج على أطباء عامين مدربين على الاستجابات النفسية مع عاملين صحيين يستجيبون لزوار هذه العيادات.

كما توفر “أوسوم” خدمة العيادات المتنقلة المؤلفة من أطباء اختصاص طب عام، ولكنهم مدربون على مداخلات نفسية مستندة إلى برامج من منظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع عاملين صحيين اختصاص إرشاد نفسي وعلم نفس.

تحديات ومخاوف مستمرة

التحدي الذي تواجهه “أوسوم”، بحسب ما عبر عنه الحاج حسين، هو الخوف من انقطاع التمويل، ما يعني الخوف من توقف الخدمة عن الناس المتضررين.

كما تمثل الوصمة المجتمعية من القيام بالمعالجة النفسية التي تتجلى باعتراف الناس بحاجتها إلى العلاج، تحديًا أمام العاملين الصحيين، بسبب الصورة النمطية عن العلاج النفسي، ولكن ظروف النزاع ومخلفاته من فقدان الأشخاص لأقاربهم أو تهجيرهم من مناطقهم الأصلية، أثرت على هذه الثقافة وتكشّفت حاجة الناس إلى جلسات العلاج النفسي الدورية.

وقال استشاري البرمجة الآمنة والحماية في مؤسسة “كيمونيكس” الأمريكية المعنية بدعم المشاريع الطبية، قتيبة الخليل، لعنب بلدي، إن الاستجابة النفسية- الاجتماعية تبدأ لدى المجتمعات المتضررة بشكل ذاتي وتلقائيًا، قبل أن تبدأ المنظمات الإنسانية بالعمل على ذلك، من خلال الدور المهم الذي يلعبه القياديون المجتمعيون في كل مجتمع محلي، بالإضافة إلى الأسرة وشبكة العلاقات الاجتماعية المحيطة بها، والعادات والتقاليد الإيجابية الموجودة في كل مجتمع محلي.

وفي الوقت ذاته،  يجب أن تقوم المنظمات بتأمين مزيد من الدعم للمجتمعات المحلية، وفق ما قاله الخليل، كي تكون الاستجابة موجهة نحو الصعوبات والتحديات النفسية- الاجتماعية الناشئة نتيجة للكوارث.

وتبدأ المنظمات عادة بتنفيذ تقييمات احتياجاتها العامة، ومن ضمنها الاحتياجات النفسية- الاجتماعية، و الاحتياجات للخدمات النفسية التخصصية، وخصوصًا عند توقف كثير من الخدمات التقليدية الموجودة أصلًا في المجتمعات المحلية عن تقديم خدماتها في فترة الكوارث.

ويبرز دور المنظمات في تأهيل مواقع العمل وتأمين الدعم اللوجستي للأنشطة، فضلًا عن توظيف وتأهيل كوادر محلية قادرة على تنفيذ برامج مناسبة للسياق ولاحتياجات كل مجتمع محلي.

ويوجد تحدٍّ كبير متعلق بمحتوى ونموذج أنشطة الدعم النفسي الذي يوجد في كثير من التجارب بعضها في سوريا، بحسب قتيبة الخليل، إذ إن الأنشطة تصمم في كثير من الأوقات من قبل أشخاص تقنيين مهمين من الناحية المعرفية ولكن قد لا يكونون ملمين بالحساسيات المحلية تجاه طرح بعض القضايا، ومنها القضايا التي تُناقش ضمن الاستشارات الطبية للعلاج النفسي، ما يمكن ألا يشجع ذلك الأفراد على بدء علاجهم النفسي- الاجتماعي.

ويتناول الموظفون المحليون هذه التصميمات على أنها نص قطعي لا يجوز التعديل فيه، فتطبق بحذافيرها، وهنا تنشأ مشكلة عدم الملاءمة، أو عدم تلبية الحاجة، أو إثارة حفيظة المستفيد وهو المريض.

ومن خلال تطبيق أنشطة غير مألوفة، أو مصطلحات غير مفهومة في بعض الأحيان، وعدم مراعاة الحساسية الجندرية، وعدم النظر إلى البعد الثقافي المحلي لبعض محتويات أنشطة الدعم النفسي، يتشكل حاجز أمام قبول هذه الأنشطة من قبل شريحة كبيرة من المستفيدين، بالإضافة إلى أن عدم تقديم بعض المنظمات مخرجًا أو نتيجة ملموسة وواضحة من هذه الأنشطة للمجتمعات المحلية جعلها تبدو ذات فائدة محدودة.

ولعل أفضل طريقة للفت نظر المجتمع المحلي إلى أهمية هذه الأنشطة وكسب ثقته، برأي الخليل، تكمن في التأكد من أن أنشطة الدعم النفسي متصلة ومتكاملة مع بقية قطاعات الاستجابة، كالتعليم والصحة والمأوى وغيرها، والحرص على أن تكون مبنية على أساس مجتمعي محلي (أي أن الأنشطة و التدخلات تصمم وتنفذ من قبل موظفين محليين بالاعتماد على المعايير الدولية)، وعليه يجب أن تنظر المنظمات بعين الاهتمام الجدي إلى الآليات التي قد تكون موجودة أصلًا في المجتمع المحلي من أجل تقديم الدعم النفسي- الاجتماعي.

طفل سوري يجلس بجوار مدرسة تضررت جراء قصف النظام السوري – 2013 (AFP)

إهمال حكومي قبل 2011

لا أحد يكترث بالصحة النفسية للسوريين

قال الطبيب أحمد شيخاني من منظمة “ريليف وويب” الفاعلة في الشمال السوري لعنب بلدي، “قبل الثورة السورية كانت خدمات الصحة النفسية مقتصرة على خدمات الاستشفاء في المستشفى، وغالبًا ما تستقبل حالات الاضطرابات المزمنة فقط، أي للأشخاص المضطرين للمكوث في المستشفى”، وهو ما عزز عدم اهتمام المجتمع السوري بصحته النفسية.

وعلى الصعيد الحكومي، لم يكن هناك سوى القليل من المستشفيات التي تقدم الصحة النفسية بشكل تخصصي، كمستشفى “ابن سينا” الخاص بالأمراض النفسية في دمشق، ومستشفى “ابن خلدون” في حلب، عدا عن ذلك كان هنالك قسم للصحة النفسية في بعض المستشفيات مثل قسم الصحة النفسية في مستشفى “المواساة”.

وفي عام 2004، أقيم مستشفى خاص للصحة النفسية في منطقة حرستا بريف دمشق.

وحاولت عنب بلدي التواصل مع “الهلال الأحمر السوري” في مدينة دمشق، ولكن لم تتم الاستجابة.

ومع قدوم اللاجئين العراقيين إلى سوريا عام 2007، بدأت مراكز طبية برعاية الأمم المتحدة، وأقيمت عيادات متعددة التخصصات تتكون من طبيب نفسي ومعالج نفسي واختصاصي اجتماعي، لتقديم الاستشارات للعائلات العراقية.

وبعد 2011، توقفت الخدمات في مناطق نفوذ النظام السوري وفي مناطق نفوذ المعارضة في الشمال السوري، ومن هنا بدأت المنظمات غير الحكومية بتقديم خدمات الدعم  النفسي- الاجتماعي، بسبب قصور المراكز الحكومية بشكل عام، وفق الطبيب أحمد شيخاني.

وبدأت المنظمات المعنية بتقديم خدمات الدعم النفسي- الاجتماعي، لعدم إمكانية تقديم خدمات الدعم العلاجية كون ظروف النزاع ما زالت قائمة.

وتم تقديم هذه الخدمات من خلال مراكز مجتمعية تتضمن أنشطة لها علاقة بالحماية وأنشطة دعم نفسي تستهدف الأطفال والنساء لكنها غير متخصصة.

وهناك جانب دمج المراكز المجتمعية مع مراكز الصحية الأولية التي تقدم خدمات طبية بشكل عام، ونتج عن هذا الدمج، وفق رأي الطبيب أحمد شيخاني، تدريب أطباء عامين على منهج ودليل يتعامل مع بعض الاضطرابات النفسية، بحيث يصبح الطبيب قادرًا على تشخيص والتعامل مع بعض الاضطرابات النفسية الموجودة في هذا الدليل.

مقالات متعلقة

  1. الهروب إلى الموت.. شبح الانتحار يلاحق السوريين
  2. هربًا من الواقع في سوريا.. الضغوط النفسية تبلغ ذروتها بـ"الانتحار"
  3. "الدقيقة بدولار".. السوريون يواجهون مصاعب العلاج النفسي في تركيا
  4. طبيب أم معالج نفسي.. لمن نتوجه ومتى؟

تحقيقات

المزيد من تحقيقات