استغرق الجواب عن هذه السؤال 16 عامًا وثلاثة أيام من حياة الطبيب السوري راتب شعبو، قضاها في سجون ومعتقلات حزب “البعث” التي تتسع للجميع إلا لمستحقيها فعلًا.
في كتابه “ماذا وراء هذه الجدران”، يروي شعبو قصة حقيقية كان بطلها وضحيتها في الوقت نفسه، هذا النوع من القصص قلّما تجود به مخيّلة الكتّاب، لا لأن الواقع أغنى فقط، بل لأن المفارقات التي ترويها الأحداث تحصل بتلقائية، لا بإعداد مسبق.
والقضية بدأت حين كان راتب في الـ20 من عمره، وخلال إحدى زياراته لأسرته في اللاذقية، وفي ثاني أيام عيد الفطر، وتحديدًا في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، قصدت دورية أمنية منزله، ليبدأ من تلك اللحظة ماراثون التنقل بين الأفرع الأمنية وأقبيتها.
من اللاذقية إلى دمشق، وبين “كراكون الشيخ حسن” في دمشق، وسجن “عدرا” ثم “شيخ السجون السورية” (تدمر)، انقضت 15 عامًا حُكم على راتب شعبو بها لاتهامه بـ”التورط” بالعمل السياسي المعارض لسلطة “البعث” والأسد، والانتماء للحزب “الشيوعي”.
وبعدما أمضى 15 عامًا قاسية وبطيئة، احتفظت به السلطات لمدة عام وثلاثة أيام إضافية، إذ قلّما يُطلق سراح السجين بعد انقضاء حكمه بشكل فوري، فالقضاء شكليّ، والمحكمة صورية، حين يتعلق الأمر بالعمل السياسي، أو مجرد الاتهام به.
استطاع شعبو خلال روايته لأحداث عاصرها وشاهدها وعايش بعضها بدمه وأعصابه وجلده، أن ينقل للقارئ إجابة تصورية كفيلة بشرح عيّنة من الظلم الممارس بحق المعتقلين السوريين في سجون النظام الحاكم، إذ يرسم في بعض اللحظات ملامح التعذيب الذي يتعرض له المعتقل لينتزع المحقق الاعتراف من بين شفتيه.
تتسارع وتيرة الرواية والأحداث والخوف، بمجرد الانتقال إلى سجن “تدمر”، فالقارئ سيشعر بالخوف على بطل القصة، دون أن يتيح له هذا الخوف تغيير المشهد التالي في الحكاية، لأنها وقعت، ولكن تأثيرها ما زال حاضرًا.
شكّل الانتقال إلى سجن “تدمر” علامة فارقة في الرواية، وحتى في حياة شعبو “السجنية”، ويبدأ المشوار إلى العذاب بمفارقة تتمثل بتوقف السائق الذي كان ينقل المعتقلين إلى “مثواهم” الجديد في تدمر، ليسأل عربة مارّة عن الطريق إلى تدمر، وفي نفس اللحظة امتدت يد أحد المعتقلين إلى راتب لتمنحة بعض البذر “للتسلية”.
في سجن “تدمر” يتعرف شعبو إلى شكل مختلف للحياة، أو يوازيها بالاتجاه العكسي، فالتعذيب النفسي يبدأ بذكر اسم سجن “تدمر” والقصص والأقاويل التي تروى عنه، والتي لا يمكن تكذيبها، وبالوصول إلى هذا السجن، يُضاف إلى العذاب النفسي العذاب الجسدي، الذي لا بد من بدئه قبل مضي 24 ساعة على وصول السجناء، وهذا ما يتعارف عليه المعتقلون باللغة “التدمرية” باسم “التشريفة”.
إن مشاهد وقصصًا كثيرة في رواية شعبو الحيّة قادرة على خدش الضمير الإنساني وملامسة الوجدان، والشعور بالخجل، لأن من ذهبوا إلى وراء تلك الجدران، كانوا قربانًا لمن بقي خارجها.
يتمتع النص على امتداد 399 صفحة بلغة سلسة ومؤثرة، غنية بالصور والمشاهد، والحديث عن الحياة والنفس وهواجسها، ويمتلك النص قوة ذكية للانتقال بين المواضيع، أو العودة إليها، فالرواية مكتوبة بطريقة استرجاعية للأحداث، إذ كتبها شعبو بعد الخروج من السجن، أو السجون السورية.
عاد شعبو إلى دراسة الطب التي أوقف عنها لمدّة 16 عامًا، واستكملها رغم تحدي سجانه له في المعتقل بأن يصبح طبيبًا، ولكن الرواية الصادرة في عام 2015 تتجه في صفحاتها الأخيرة إلى البوح الأمين، والموجع لا على المتحدث فقط، بل وعلى السامع أيضًا، فما الجناية التي تطلبت كل هذا العقاب.