حمص – عروة المنذر
تحت أشعة شمس كانون الأول الشتوية، يجلس عبد الله على كرسيه الخشبي الصغير، فاتحًا فمه ليستطيع هايل، معالج الأسنان المتجول، رؤية أضراسه.
يحصي هايل خمسة أضراس متآكلة بشكل كامل، ويعود إلى كرسيه ويبدأ بلف سيجارة من تبغه العربي قائلًا للرجل الستيني، “سأجهز لك تلبيسة لخمسة أضراس بتكلفة 120 ألف ليرة، وبالمقابل أريدك أن تقيم لي حملة إعلامية عند جيرانك وأقاربك بعد أن ننتهي وتجربها”.
ينحدر هايل من إحدى عشائر “النّوَر” التي كانت تسكن في بساتين حي الوعر بمحافظة حمص، ويمتهن صناعة السكاكين الخشبية وتبيض النُحاس، إضافة إلى إصلاح الأسنان، الذي زاد سوقه مع الغلاء.
و”النّوَر” في سوريا هم مجموعات من “الغجر” يتوزع القسم الأكبر منهم في باديتي حمص وحماة، ويشكلون مجتمعات خاصة بهم، يغلب على حياتهم طابع الارتحال وعدم الاستقرار، ويعيش معظمهم في خيام مؤقتة على أطراف المدن.
غلاء يبعد المرضى عن أطباء الأسنان
لا يفضل عبد الله إصلاح أسنانه عند “النّوَر”، لكنه “مضطر” لذلك، حسبما قال لعنب بلدي، مضيفًا أنه اتجه بداية إلى طبيب الأسنان، لكن الطبيب أخبره أن إصلاح أسنانه الخمسة سيكلفه أكثر من 350 ألفًا ثمنًا للمواد عدا أجرة الطبيب، لذلك طلب من هايل القدوم.
لا يتقيد أطباء الأسنان بالأجور المحددة لهم من قبل وزارة الصحة، لارتباط أسعار المواد المستخدمة في عملهم بسعر صرف الدولار، فأغلبها مستوردة، ولأن تحديث نشرات الأجور لا يتم بشكل دوري، مع إصدار آخر نشرة عام 2018.
تشير طبيبة الأسنان رهف حبوش إلى عدم إمكانية تحديد أسعار ثابتة في حال تركيب الجسور أو تلبيس السن أو الضرس، لعدم ثبات أسعار المواد المستخدمة، ولوجود أكثر من نوعية ولكل منها ثمنها، لذلك يلجأ الطبيب إلى الاتفاق على أجور العلاج مع المريض قبل بدء العمل.
ويتقاضى أطباء الأسنان في محافظة حمص أسعارًا “مرتفعة” مقارنة بمتوسط الدخل، إذ يبلغ متوسط تكلفة حفر وحشو الضرس حوالي 25 ألف ليرة سورية (الدولار يعادل2800 ليرة)، أما تركيب الجسر فيصل إلى أكثر من 120 ألفًا، وعزت رهف ارتفاع الأجور أيضًا إلى ارتفاع ثمن تجهيز العيادات السنية والتكلفة “الهائلة” التي يتكبدها الأطباء خلال سنوات الدراسة، وقالت إن متوسط سعر كرسي طبيب الأسنان وحده يبلغ أكثر من خمسة ملايين ليرة سورية.
وكان الاعتماد على “النّورَ” توقف بشكل شبه كلي بعد عام 2007، مع تحسن الوضع المعيشي للسوريين، ولجوء المرضى إلى عيادات أطباء الأسنان، واقتصر عمل المعالجين الجوالين على بعض كبار السّن، إلا أن تدهور الوضع المعيشي أعاد مهنة تلبيس الأسنان، بحسب هايل.
تعقيم بأسس غير علمية
يؤكد هايل استخدامه لذات المواد المستخدمة في مخابر التعويضات السنية التي يتعامل معها أطباء الأسنان، ويقول لعنب بلدي، إن عمله لا يختلف عن طبيب الأسنان سوى بالمكان والشهادة العلمية، ويعلل أسعاره المنخفضة باختصار عدد الأشخاص العاملين على صناعة السن.
يغسل هايل يديه جيدًا ويرتدي الكمامة قبل بدء العمل، بعد أن طلب منه عبد الله ذلك، ويبدأ بتعقيم أدواته أمام المريض لطمأنته.
وعبرت طبيبة الأسنان رهف عن استيائها من لجوء البعض إلى “النّوَر” لإصلاح أسنانهم، كونهم لا يلتزمون بالمعايير الطبية والشروط الصحية خلال عملهم، ومن الممكن أن يتعرض المريض لالتهاب في اللثة عند جرحها بأدوات غير معقمة بالشكل المطلوب، خاصة في ظل انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).
وقالت الطبيبة الشابة، إن عمل “النّوَر” يقتصر على تركيب تيجان الأسنان والأضراس، وتصنيع البدلات الكاملة، ولا يمكنهم حفر الأسنان وحشوها بسبب الحاجة إلى معدات طبية مكلفة.
تعرضت عشائر “النّوَر” للنزوح المتكرر إثر العمليات العسكرية التي شهدتها المحافظة وريفها طوال سبع سنوات، يعرف عنهم الانعزال الجزئي عن المجتمع السوري، ويعرفون العربية إلى جانب لغتهم الأم “العصفورة أو الضوم وراي”، ويزعم بعضهم أنهم ينحدرون من أصول عربية أصيلة مثل قبائل بني مرة وبني تميم.
وبحسب ما جاء في كتاب “عشائر النّوَر في بلاد الشام”، الذي صدر عام 2006، للدكتور المحاضر في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) بجامعة “دمشق” علي الجبلاوي، فإن تلك العشائر امتهنت أعمالًا متنوعة.
مثل “القرباط” الذين يتميزون بصناعة الغرابيل، و”الطبالة” و”الرياس” و”الطنجرلية” و”السعّادين” و”مروضي القردة والدببة” و”البهلوانيين” و”الحدادين” و”الصباغ”، و”نوَر تلبيس الأسنان بالذهب”، و”المبيضين” و”أصحاب القدور” (الحجيات)، و”الشعّار” أو “القواصيد”.
ويتركز وجودهم في حمص بمحيط حي الوعر والريف الشرقي، وبالقرب من الحدود اللبنانية- السورية، حيث تم تهجيرهم بعد سيطرة “حزب الله” اللبناني على المنطقة، واستطاع بعضهم العودة إلى الوعر، أما في الريف الشرقي فحال وجود خلايا لتنظيم “الدولة الإسلامية” وانتشار الألغام دون عودتهم.