عنب بلدي – دير الزور
مر 20 شهرًا على سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بمساعدة “التحالف الدولي” على الباغوز، البلدة التي تصدرت عناوين الأخبار حول العالم لفترة وجيزة من آذار عام 2019، بعد أن تحولت إلى آخر معاقل تنظيم “الدولة الإسلامية”، وملجأ عشرات الآلاف من المقاتلين والنازحين الذين شهدوا أقسى المعارك.
انحسرت أراضي “الخلافة” من مناطق واسعة في سوريا والعراق، إلى البلدة الصغيرة في ناحية السوسة التابعة للبوكمال بريف دير الزور الشرقي، بعد سنوات من قتال التنظيم الذي شد انتباه العالم بـ”خطورته”.
لم يبقَ في الباغوز سوى أكثر مقاتلي التنظيم ولاء من السوريين والأجانب الذين قرروا القتال حتى الرمق الأخير، وتحقق ذلك بالنسبة لعدد منهم قبل خروج قوافل النازحين والأسرى الذين توزعوا ما بين عشرات المخيمات والسجون في شمال شرقي سوريا.
250 جثة لمقاتلي التنظيم والضحايا المدنيين الذين اقترن مصيرهم بهم، دُفنت في منطقة صحراوية قريبة من البلدة، بعد انتهاء المعارك التي خاضتها قوات “قسد” برًا، مدعومة بغارات “التحالف” الجوية، حسب أحد العاملين بالقطاع الصحي في ريف دير الزور الشرقي، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه.
في 23 من آذار عام 2019، أعلنت “قسد” هزيمة التنظيم العسكرية، لكن ذاك الإعلان لم يكن كافيًا للقضاء على آخر خلاياه التي ما زالت إلى الآن تنفذ بين الحين والآخر اغتيالات تستهدف موظفين في قطاعات “الإدارة الذاتية” ومؤسساتها، ومدنيين وعسكريين، والتي ما زال الخوف منها حاضرًا حتى في البلدة المهدمة.
الدمار باقٍ
لم يستطع جميع أهل بلدة الباغوز، التي تتمتع بصبغة عشائرية، وأهلها من عشائر كـ”العكيدات” و”المراسمة” و”الجبور”، العودة إلى بلدتهم بعد.
رغم مرور أشهر على انتزاع البلدة من سيطرة التنظيم، ما زال الدمار الذي حل بالبيوت باقيًا، إذ وصل عدد المنازل المهدمة بعد نهاية المعركة إلى 700 منزل، بحسب إحصائية أجراها سكان الباغوز آنذاك.
ترك طلال العشوي منزله الريفي على أطراف الباغوز، ونزح نحو مدينة الرقة مع عائلته في أثناء المعركة، ولم يعد إلا بعد قرابة الشهرين على نهايتها.
لم يجد من بيته شيء حين عاد، حسبما قال لعنب بلدي، كانت الحواجز التابعة لـ”قسد” منتشرة في كل مكان، والجميع عرضة للتفتيش والتدقيق، ولم يكن الخروج والدخول للبلدة متاحًا كل يوم، بسبب كثرة المضايقات والتدقيق التي نتجت عن قلق المقاتلين من أي حركة مشبوهة من المدنيين، حسبما أضاف طلال.
“اليأس” كان أول ما شعر به الرجل الأربعيني حين رأى منزله المهدم، إلا أن اقتناعه بضرورة “استمرار الحياة”، على حد تعبيره، هو ما دفعه للبقاء.
سكن طلال وعائلته عند أقرباء لهم، بينما بنوا منزلًا طينيًا من مواد بسيطة منخفضة التكلفة، لجأ إليه مع أطفاله الخمسة وزوجته.
كيف تكون الحياة في الباغوز؟
يعمل أغلبية سكان الباغوز اليوم بالزراعة، إذ تشتهر البلدة بزراعة الرمان والنخيل، إضافة إلى تربية المواشي وصناعة الألبان ومشتقاتها، ويشتكي ربيع النايف، أحد سكان البلدة، من قلة الدعم المقدم لإعادة إعمار ما تهدم بصواريخ طائرات “التحالف”، بعد أن دخلت البلدة وأهلها بمعركة “لا ناقة لهم فيها ولا جمل”، على حد تعبيره.
ويؤكد ربيع أن أهالي الباغوز يعانون من نقص الخدمات في المنطقة، مثل محطات مياه الشرب والأفران وسوء الطرقات وانتشار أنقاض المباني ومخلفات الحرب، يضاف إلى ذلك وجود الألغام وتردي الواقع الصحي.
لا يوجد في الباغوز سوى مستوصف صغير لتخديم البلدة، كما أشار ربيع إلى أن جثث القتلى والمقابر الجماعية التي انتشرت في المنطقة سببت انتشار أمراض جلدية بين السكان العائدين، في حين لا تنشط المنظمات الإغاثية فيها ولا دعم يوجه للأهالي.
شواهد “الدولة” لم تختفِ بعد
إلى جانب الدمار، بقيت آثار سيطرة التنظيم واضحة على معالم الباغوز، فشعارات ورايات التنظيم، التي طبعت على أبنية ومنازل البلدة، ما زالت حاضرة.
برأي أهالي البلدة، فإن منطقتهم معرضة لـ”التهميش”، كحال أغلبية مناطق ريف دير الزور، ولذا لم يكن هناك اهتمام بترميم منازلهم ولا إعادة تأهيل الخدمات التحتية.
لكن لا يرى عضو “مجلس دير الزور المدني”، التابع لـ”قسد”، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن التهميش متعمد، مشيرًا في حديث لعنب بلدي إلى أن أغلبية موظفي “الإدارة الذاتية” في مناطق دير الزور هم من أبنائها.
وأرجع عضو المجلس التهميش إلى سوء الوضع الأمني، وحالة عدم الاستقرار التي تعانيها المنطقة، بسبب نشاط الخلايا التي تتبع للنظام السوري والميليشيات الإيرانية التي تسيطر على مناطق قريبة من الباغوز، إضافة إلى وجود خلايا نائمة ترتبط بتنظيم “الدولة الإسلامية”.
ولا تزال “قسد” تواجه تحديات عدة لبسط سيادتها الكاملة على المنطقة، إذ تطلق حملات أمنية من حين لآخر لتلقي القبض على أشخاص مطلوبين في المنطقة حتى الآن، بمساعدة “التحالف”.
القبول بمؤسسات “الإدارة” هو الحل الوحيد للسكان، حسب تقدير عضو “المجلس”، الذي حذر من أن أي فتنة بين مؤسسات السلطة الحاكمة مع المدنيين ستصب في مصلحة النظام وإيران، وبحسب تقديره، فإن 15% من حجم الدمار البالغ 60% في الباغوز، تمت إعادة إعماره، بينما عاد نحو 20 ألفًا من مجموع السكان الذين كان عددهم 40 ألف نسمة قبل المعارك.