أسامة آغي
تبدو حال “هيئة التفاوض السورية” غير سارّة للسوريين، فهذه الهيئة لا تزال في حالة غياب عن الاجتماعات، نتيجة الخلافات التي عصفت بها، وسبب ذلك الخطوة السعودية، التي تمثّلت بالدعوة لانتخاب الأعضاء المستقلين الثمانية.
وكي تتضح الصورة أكثر، فإن اجتماع الرياض بتاريخ 28 من كانون الأول 2019، الذي نتج عنه انتخاب أعضاء مستقلين جُدد، كانت الغاية منه سياسية، تتعلق بالصراع بين محورين سياسيين، هما المحور السعودي، والمحور التركي، وهذا الصراع يتعلق فعليًا بخلافات أبعد من القضية السورية، ولو أنه حلقة من حلقاته.
هذا الاجتماع عصف بعمل “هيئة التفاوض”، ودفع بها إلى حالة تعطيل واضحة، نتيجة الانقسام بين مكونات الهيئة حول هذه النقطة الجوهرية، فالانقسام بين كتلتين رئيستين، أظهرهما وكأنهما كتلتان لا تعملان على قاعدة الثورة السورية، بل تعملان على إيقاع علاقة كل منهما بمحور ارتكازه السياسي، وربما بطلائه الأيديولوجي.
التعطيل المذكور سمح بتقدم الصراعات الثانوية على الصراع الرئيس، فصراع قوى الثورة والمعارضة هو صراع رئيس مع نظام الاستبداد، وليس هو الصراع البيني بين قوى الثورة، ذات المقدمات الأيديولوجية المختلفة، لهذا، لا يمكن فهم الانقسام الحاصل بين كتل “هيئة التفاوض” على أنه يخدم قضية الصراع وحلّه مع النظام في ظل استمراره.
تعطيل اجتماعات وعمل “هيئة التفاوض”، أضرّ كثيرًا بملف التفاوض بعمومه، فالتفاوض الجاري حتى اللحظة يتركز فقط حول السلة الدستورية، في وقت يحتاج الحل السياسي للصراع السوري إلى تزامن التفاوض حول السلال الأربع في آن واحد.
ولتجاوز التعطيل، ينبغي على كلّ مكون من مكونات “هيئة التفاوض السورية” أن يحدد موقفه الحقيقي داخل وخارج هذه الهيئة من جملة أمور، أولها، هل هذا المكوّن مع انتقال سياسي في سوريا واضح الملامح والجوهر، وفق القرارات الدولية؟ وهل هذا الانتقال السياسي يبدأ مع تشكيل هيئة حاكمة انتقالية، تمثّل الشعب السوري، وتطرح خارجها رأس النظام وطغمته المسؤولة عن كل ما جرى من انتهاكات كبرى بحق السوريين؟ وهل هذا المكوّن مع دستور جديد يتمّ الاستفتاء عليه، بظروف طبيعية آمنة؟ وهل يرفض هذا المكوّن أن تجري الانتخابات الوطنية بغير إشراف تام من الأمم المتحدة؟
وما دامت مكونات “هيئة التفاوض السورية” تلتقي على هذه المربعات الأساسية في عملية تفاوضها، فما جدوى الخلافات والتنابذات وعدم الثقة فيما بينها؟ وما جدوى أن نطلق عليها صفة الوطنية الحقيقية، في حين تمارس اصطفافات مع قوى إقليمية أو دولية؟!
في الصراعات يتقدم الرئيس منها على الثانوي، ونقصد بشكل واضح، أن الرئيس في حالة الصراع السوري هو الصراع بين الثورة ونظام الاستبداد، ولا ينبغي أن تتراجع هذه الحالة الرئيسة، لتفسح المجال لصراعات يمكن تصنيفها بالثانوية.
وفق هذه الرؤية، يمكن القول إن الحديث عن وجود منصات هو تعبير عن حالة سلبية، فحين نذكر “منصة القاهرة”، أو “منصة موسكو”، أو “منصة الرياض”، أو منصة “الائتلاف” وتحالفاته، فنحن نوحي أن بناء “هيئة التفاوض” هو بناء إقليمي دولي وليس بناء وطنيًا حقيقيًا، وهذا يضرّ بسمعة السوريين وتمثيلاتهم السياسية.
وكذلك، هذا أمر خطير على السوريين ومطالبهم في الخلاص مما هم فيه، من نزوح، ولجوء، ودمار، وبؤس بكل ألوانه، فتظهر في هذه الحالة وكأن “هيئة التفاوض السورية” مجرد مكونات تبحث عن حصص خاصة بها، وليست هيئة وطنية حقيقية، مهمتها إنجاز التفاوض بأفضل ما يمكنها خدمة لشعبها، وليس تصريفًا لشؤون التدخلات الإقليمية.
هنا تظهر قيمة التعطيل السياسي لعمل “هيئة التفاوض السورية”، وهذا التعطيل مسؤولية كل المكونات داخل بنية الهيئة، وهو تعطيل تنتج عنه مسؤولية وطنية، يحقّ للشعب السوري محاسبة من يمارسه خدمة لأهداف ضيّقة، وليس خدمة للسوريين.
ولتجاوز ذلك، يمكن لهذه الهيئة بمكوناتها التوقف عن التعطيل بسرعة، من خلال مبادرات تمنع التفرّد باتخاذ قرارات مصيرية تخصّ مهمة التفاوض الموكلة لهذه الهيئة، وهذه المبادرات، يمكن ملاقاتها بصورة جدية على قاعدة رفع نسبة التصويت في القرارات الإجرائية، من نسبة 51% إلى نسبة 60%، وهذا الرفع سيمنع أي تكتل من التفرّد باتخاذ قرار قد يسبب انشقاقات وطنية تسيء للثورة السورية وتضحيات السوريين العظيمة.
كذلك يمكن التوافق حول اعتماد تمثيل المستقلين بصورة مناصفة، أي أربعة أعضاء لكل من الكتلتين المختلفتين، فهذا الأمر سيمنع اتساع هوّة الخلاف بين المكونات، وبنفس الوقت، سيفسح المجال أمام تقدم قاعدة التوافق، على حساب قاعدة التصويت ولي الأذرع.
إن مكونات “هيئة التفاوض” جميعها من دون استثناء، هي مكونات مسؤولة عن استمرار تعثر التفاوض بصورة أكثر جدية، وعلى قاعدة الانتقال السياسي، وهي معنية بإزالة هذا التعثر عن طريق عملها، من خلال عدم قبولها بضغوطات أو تدخلات إقليمية معطلة، وهذا يتطلب بالضرورة الانفتاح على السوريين والاستقواء بهم.
إن استقواء “هيئة التفاوض السورية” بالحاضنة الشعبية والثورية، سيساعدها في إنجاز تفاوضها بسرعة أكبر، فهي عندما تفاوض بصورة شفّافة، وعلنية، ودون أوراق تمرّر من تحت الطاولة، ستجد التفافًا شعبيًا حقيقيًا يمنحها القوة والشرعية والمبادرة الفعالة، وهذا الأمر سيمنع أعداء الثورة السورية من إيجاد نقاط ضعف لدى الهيئة يتسللون منها لتكييف هذه الهيئة لغايات لا تخصّ مصالح السوريين الوطنية والثورية.
إن أولوية التفاوض تعتمد بالضرورة على أولوية تقديم المصلحة الوطنية على كل مصلحة سياسية، أو أيديولوجية، تخص هذه المكون أو ذاك.
وحين تتقدم الوطنية السورية الحقيقية في العلاقة بين مكونات “هيئة التفاوض”، فهذا يمنحها ثقة وانسجامًا كبيرين لم تعهدهما من قبل.
فهل نتوقع اتجاهًا لتغليب الوطنية على العلاقات الإقليمية؟ وهل سيتجاوز فرقاء “هيئة التفاوض” معوقات التعطيل السياسي لعمل هيئتهم، أم سيبقون خاضعين لحسابات سياسية إقليمية ودولية، تضرّ بمصالح السوريين؟
الأمر لا يتعلق بالرغبات، بل بمصالح شعب، فمن يعجز عن تمثيل مصالح السوريين المنصوص عليها برزمة القرارات الدولية وفق التسلسل التالي: بيان “جنيف 1″، والقرار الدولي “2118”، والقرار الدولي “2254”، عليه ألا يزيد من بؤس حال السوريين، فليفسح لقوى أكثر ارتباطًا بالوطنية طريق فرض إرادة السوريين.