الرقة – حسام العمر
جمع فارس كتبًا ودفاتر قديمة مرمية، قلّبها بين يديه الصغيرتين وهو ينظر إلى الطلاب العائدين من المدرسة القريبة.
في مخيم عشوائي، على أطراف قرى الكسرات بريف الرقة الجنوبي، يسكن فارس مع إخوته الخمسة وأبويه، لا أحد من الأطفال زار المدرسة من قبل، ولا يخطط الأبوان ذلك لهم.
فارس طفل في الثامنة من عمره، عاش ست سنوات منها في المخيمات، بعد أن ترك أهله قرية الحمرة بريف حماة الشرقي، عقب وقوعها تحت سيطرة قوات النظام عام 2014.
لا يحمل المخيم الذي تسكنه العائلة أي اسم، بسبب عدم تبعيته لأي جهة مسؤولة، وأغلبية خيامه صنعت من بقايا أقمشة أو أكياس تعبئة المحاصيل الزراعية.
أقرب مدرسة إلى المخيم، في قرية رطلة، لا تعاني من الازدحام، فأهالي المخيم لا يرون ضرورة لتعليم أبنائهم ولا يسعون لذلك.
قرار من الأهل
يبلغ محمد الخالدي، والد فارس، 42 عامًا، ويعتمد على أعمال المياومة في الحقول الزراعية لتأمين قوت عائلته.
قال محمد لعنب بلدي، إن سبب عدم إرسال ابنه إلى المدرسة هو توفير الأعباء المادية التي ستضاف إلى ما يعجز عن تقديمه لفارس ولإخوته الخمسة، الذين تتراوح أعمارهم بين السنة والعشر سنوات، وكلهم ما زالوا صغارًا وبحاجة إلى العناية من لباس وطعام وكل شيء.
الذهاب إلى المدرسة يعني شراء الدفاتر والأدوات المدرسية، لا لطفل واحد ولكن للإخوة جميعًا، فإن ذهب فارس سيلحق به إخوته، الذين يبلغ ثلاثة منهم عمر الدراسة، “أرسل اليوم اثنين منهم للعمل في الحقول”، قال محمد، مشيرًا إلى الخسارة التي ستعانيها العائلة مع فقد الأجور.
وأضاف “أبو فارس” أن المنظمات الإغاثية، رغم كثرتها، لا تقدم لهم سوى بعض الدعم الإغاثي للمواد الغذائية بكميات لا تكاد تكفي لشهر، في حين توزَّع بمعدل كل ستة أشهر.
عطا الله الربيّع، المدرّس النازح من ريف حمص الشرقي، قال لعنب بلدي، إنه حاول مرات عدة إيجاد فسحة تعليمية داخل مخيم “الجربوع” الذي يسكنه شمال الرقة، لكنه اصطدم بوجود العديد من العوائق المادية والمعنوية.
وأول تلك العوائق “عدم وجود نية لدى ذوي أطفال المخيمات لتدريسهم”، حسبما قال عطا الله، مضيفًا أن الأهالي يرسلون أبناءهم في أغلب الأحيان للعمل في المزارع والحقول المجاورة لتلك المخيمات لاستجلاب مردود مادي، ولو كان ضئيلًا، “يقومون بذلك على مبدأ بحصة بتسنُد جرة” على حد تعبيره.
يتراوح الأجر اليومي للأطفال العاملين في الأراضي الزراعية ما بين 500 و1500 ليرة سورية، حسب عمر الطفل وقدرته على تحمل شقاء العمل، وبحسب آراء بعض الأهالي في مخيم “الجربوع”، فهم “مضطرون” لإرسال أطفالهم للعمل، لعدم وجود مصادر دخل لدى الكبار وتفشي البطالة، ويضاف إليها قلة المساعدات الإغاثية التي تقدم لسكان تلك المخيمات، الذين لا يحصل أغلبيتهم عليها سوى مرة أو اثنتين في العام.
أهالي المخيم يدركون حجم المشكلة
لا يعتقد “أبو فارس” أن العمل مناسب للأطفال، وبرأيه فهم يحمّلونهم فوق طاقتهم بإرسالهم للعمل لكنهم “مجبرون”، على حد قوله، بسبب الفقر الذي يعيشونه نتيجة التهجير وظروف النزوح، وهم يحاولون التأقلم مع الواقع الجديد الذي دفعتهم إليه الحرب.
ورغم جهل محمد بمستقبل فارس وإخوته، فإن الخسارة “عامة”، على حد تعبيره، مشيرًا إلى أن الأمّية ليست أسوأ ما مر على السوريين.
غالبًا ما تنتهي محاولات المدرّس عطا الله لإقناع أهالي الأطفال في المخيم بحجم “مصيبة انتشار الأمّية” بين أبنائهم بـ”الفشل”، فهم دومًا يبررونها بالمعاناة العامة التي يعيشونها.
لو توفرت مدارس ميدانية مدعومة من المنظمات الإغاثية لكانت ستوفر حلًا برأي عطا الله، ولكان عدد الأطفال الأمّيين الذين “خسروا طفولتهم” سيقل، حسب تقديره.
لم ينكر الأهالي في مخيم “الجربوع” معرفتهم بخطر الأمّية وأهمية التعليم، لكنهم جميعًا بانتظار “المستقبل” المجهول، الذي “ربما سيحمل أيامًا أفضل” لأبنائهم.
سنوات مرت على بدء تشكل المخيمات العشوائية في الرقة، فمنذ خروجها عن سيطرة قوات النظام السوري عام 2013، بدأت رحلة النازحين إليها، على اعتبار أنها الملجأ الآمن من الاعتقال ومهرب من الحواجز العسكرية والحملات الأمنية.
ويعيش نحو 30 ألف شخص في المخيمات المنتشرة بمحافظة الرقة، التي يتجاوز عددها 30 مخيمًا، بحسب تقدير أحد أعضاء “لجنة الشؤون الاجتماعية والعمل” في “مجلس الرقة المدني”، التي تُعنى بأمور المخيمات وتقديم المساعدات بالتنسيق مع المنظمات الإغاثية والإنسانية.
يعزو عضو اللجنة، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، مشكلة انتشار الأمية في المخيمات إلى “الإمكانات المادية المحدودة” لمؤسسات “الإدارة الذاتية” في المنطقة، وهو ما أدى إلى افتقار العديد منها للمدارس والخدمات والبنى التحتية.
وفي حين تبلغ نسب عمالة الأطفال لدى العائلات النازحة في شمال شرقي سوريا 83%، حسب تقدير مبادرة “REACH“، فإن طلب خدمات التعليم يقتصر على 3% من تجمعاتهم، بعد تراجعها أمام طلب الغذاء وفرص العمل والصحة والصرف الصحي والملجأ.
وبحسب أحدث تقارير وكالة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، فإن 2.5 مليون طفل لا يتلقون التعليم في سوريا، وسبعة ملايين طفل ومعلم بحاجة إلى خدمات التعليم.