روسيا ليست مرتاحة مع نفسها في سوريا وهي تشكك في جميع اللاعبين هناك لكنها تجد نفسها مضطرة لأن تثق بالتطمينات الإيرانية المنبثقة من السياسة الأميركية المرتقبة في عهد الرئيس المنتخب جو بايدن. فموسكو تود “اختتام قصة سوريا عام 2021” قال أحد المخضرمين الروس مشيراً الى “انعدام اللغة المشتركة” مع تركيا والى مؤشرات لازدياد التوتر داخل النخبة السورية وبروز كلام عن الحاجة الى التغيير بما في ذلك قيادة بشار الأسد. وهذا يضع موسكو أمام خيارات مهمّة أبرزها قد يتمثل قريباً بمعالجة مسألة ادلب بالقوة العسكرية بدلاً من استمرار محاولات التفاهم مع تركيا. ولأن الكرملين ليس مستعدّاً للتخلي عن بشار الأسد، هناك توجّه نحو استراتيجية دعمِه عبر “تنظيف” ادلب مع دفعِه للموافقة على انتخابات جديدة. فموسكو عدّلت مواقفها وتوقعاتها في سوريا بمعنى تقليص أهدافها والاكتفاء بقواعد مهمة لها هناك، ولذلك تبدو جاهزة للموافقة على أدوار إيرانية أكبر في سوريا.
القيادات الإيرانية انتعشت بانتخاب جو بايدن رئيساً وهي تنظر الآن الى 2021 بأنه عام الاختراق الكبير في إِحياء النظام في طهران ونشاطاته الإقليمية. هذه القيادات ترى ان السياسة المرتقبة لإدارة بايدن ستجعل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية ليس فقط لاعباً إقليمياً وإنما لاعب عالمي وحاسم. ترى أن سياسة الإدارة الجديدة في واشنطن ستمكّن طهران من زيادة نفوذها ومضاعفة سيطرتها على سوريا كما على العراق ولبنان وكذلك اليمن. هذه هي أجواء صنّاع القرار في طهران كما نقلتها مصادر مقرّبة منها. وهذه الثقة العارمة بالنفس في صفوف القيادات الإيرانية– المدنية منها والعسكرية التي يمثلها “الحرس الثوري” القائم على السياسة الإقليمية– انطلقت من نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. في الوقت ذاته، ان رجال النظام في طهران لا يثقون بأي شيء أميركي، وهم جاهزون لتوطيد العلاقات مع الصين من جهة ولترسيخ أقدامهم في الجغرافيا العربية. وسوريا قصة لافتة في هذا الإطار.
فالإيرانيون يقولون للروس إنهم قادرون على معالجة الأوضاع داخل سوريا بدون المساهمة الروسية حيث باتوا هم اللاعب الميداني الأكبر في الساحة. يقولون انهم جاهزون لتقديم “الضمانات” بأن سوريا ستكون دولة صديقة ودولة كفوءة efficient وفعّالة تحت القيادة الإيرانية، وبالتالي تلبّي الحاجة الروسية الى الاستقرار في سوريا. يقولون انهم يفهمون المزاج في موسكو. وهذا المزاج، كما لخّصه خبير روسي، هو “اننا لا نريد عبء سوريا على أكتافنا، ولا نريد أن ندفع ثمناً غالياً في سوريا. نريد قواعدنا في بيئة مستقرة. والإيرانيون يقدّمون هذا الخيار لنا”.
هذا التوجّه هو جزء من إعادة النظر في السياسة الخارجية الروسية بِرُمّتها على ضوء المعطيات الدولية والمحلية المستجدّة نتيجة الانتخابات الأميركية ونتيجة تدهور العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي بسبب العقوبات. وما يترتب على ذلك من “سياسة الذئب الوحيد”.
موسكو وجدت نفسها مضطرة لإعادة الحسابات على ضوء استحالة التفاهم ما بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، ولذلك التوجه الى حسم عسكري في ادلب. صعوبة هذا الخيار لا يُستهان بها، والعبء يقع على أكتاف الشركاء الميدانيين الثلاثة: روسيا وإيران وبشار الأسد، في أجواء متوتِّرة داخل سوريا. وبحسب المصادر المطّلعة هناك دعوات تتعالى من الصفوف الأمنية ومن أفراد نافذين تدعو الى تغيير ضروري في القيادة السورية. وحسبما نقل مصدر عن أحدهم، فحوى المزاج هو: بدون التغيير في القيادة والسياسة، ان البلد سينهار.
هذا لا يريح موسكو المتمسّكة بالأسد، ولا يسهّل على طهران مهمّة تنفيذ وعودّها وتوعداتها في سوريا. إنما بالقدر نفسه من الأهميّة هو الطريقة التي سيتعامل بها فريق بايدن مع الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية وما إذا كان ينوي حقاً الانطلاق من العودة التلقائية الى الاتفاقية النووية JCPOA مع رفع العقوبات وسحب أدوات التأثير والنفوذ في السياسات الإيرانية. ففي أيادي هذا الفريق قرار فائق الأهمية عنوانه الأساسي هو تداعيات تمكين طهران من توطيد قبضتها على أربع دول عربية واثار ذلك في اطار المعادلة الجغرافية- السياسية. فليس أمراً بسيطاً ان تقدّم الجمهورية الإسلامية الإيرانية الضمانات في سوريا الى روسيا نتيجة سياساتٍ أميركية تدعمها الدول الأوروبية المُهرولة الى اعادة احياء الاتفاقية النووية أولاً، ثم لاحقاً يبدأ الحديث عن الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة والسياسات الإيرانية التوسّعية والسلوك الإيراني الإقليمي.
هذا الموضوع تناولته الحلقة المستديرة الافتراضية السادسة والعشرين لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي شارك فيها كلٍ من أياد علاوي رئيس الحكومة ونائب الرئيس الأسبق في العراق، الجنرال جوزيف فوتل القائد السابق للقوات الأميركية المركزية، فيليب اكرمان المدير العام للسياسة الخارجية الألمانية، ونورييل روبيني أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك ورئيس شركة روبيني ماكرو اسوشياتس.
الى جانب الولايات المتحدة والصين وروسيا، المانيا وبريطانيا وفرنسا هي الدول الأوروبية الثلاث التي وقّعت على اتفاقية JCPOA عام 2015 وتبدو اليوم متشوّقة لإحيائها بعدما كان مزّقها الرئيس دونالد ترامب عام 2018 معتبراً انها أسوأ اتفاقية في التاريخ من الناحية النووية كما من ناحية تجاهلها لمسألة الصواريخ وللسلوك الإيراني الإقليمي. هذا التجاهل لم يأتِ سهواً وإنما أتى نتيجة قرار متعمَّد اتّخذته الدول الست الموقّعة تلبيةً لإصرار إيران على استبعاد الأمرين عن الاتفاقية النووية. ما حدث بين 2015 و2020 من تطوير إيران القُدرات الصاروخية ومن ترسيخ الهيمنة الإيرانية على سوريا ولبنان والعراق واليمن إنما هو نتيجة مباشرة للاتفاقية النووية كما رضخت الدول الست لشروطها الإيرانية. والتاريخ قد يكرر نفسه اليوم.
فيليب اكرمان أقرّ بأن الصواريخ والسلوك الإقليمي “كان في بالنا” حتى عند التركيز قطعاً على الاتفاقية النووية معترفاً بأن السلوك الإيراني ما بعد الاتفاقية كان سيئاً. رغم ذلك، قال “ان ما نريده اليوم هو محاولة فتح قنوات ديبلوماسية جديدة، وأعتقد أن JCPOA هي عربة vehicle للجلوس معاً ومحاولة البحث، في مرحلة ما، مع إيران وآخرين ربما في الأمور الأخرى غير الأسلحة النووية مثل الصواريخ والسلوك الإقليمي”.
رأي أكرمان هو أن سياسة الضغوط القصوى المُتمثِلة في العقوبات الأميركية للسنوات الأربع الماضية على إيران دمّرت الاقتصاد لكنها لم تؤثّر في فكر ومواقف وسلوك إيران. قال “علينا أن نجد مدخلاً لكل هذه الأمور وهذا المدخل يكمن في العودة الى ما سبق واتفقنا عليه. أما إذا كنّا سنرفع جميع العقوبات دفعة واحدة أو بصورة تدريجية، فهذا أمر آخر”.
رأي الجنرال فوتيل يختلف إذ يعتقد انه يجب أن يكون هناك “نهج شامل نحو المنطقة”، و”استراتيجية واضحة لما نريده في المنطقة وكيف نصل اليه”. شدّد على أهمية “الوضوح”، والأخذ في الحساب المستجدات ما بين 2015 و2020 بما في ذلك اتفاقيات ابراهامز داعياً الى التدقيق في “الفرص المتاحة أمامنا وكيفية استخدامها كوسيلة ضغط leverage على إيران وكذلك كفرص لخلق الوحدة في المنطقة”. وقال “ان الخيار العسكري وحده لا يحل المشكلة وعلينا التحرك الى الأمام بنوعٍ ما من الديبلوماسية. والأهم أن كل هذه الأمور يجب أن نمضي بها بصورة متزامنة simultaneously”.
أياد علاوي شدّد على “المسؤولية القانونية والمسؤولية الأخلاقية للولايات المتحدة نحو المنطقة، بالذات العراق الذي احتلّته وسمحت لإيران بالتسلّل داخله لتصبح القوة الرئيسية فيه بعدما فكك (الأميركيون) الجيش العراقي”. قال انه “يجب أن تكون هناك سياسة مُنظّمة وهيكليّة بالتنسيق مع دول أخرى في الشرق الأوسط حول ما العمل أمام إيران”. تابع “بصراحة، لا يجوز لأميركا سحب اهتمامها بالمنطقة بعدما فعلت بها ما فعلته” وأدّى الى “قيام إيران بتدميرٍ وخرابٍ في الشرق الأوسط كما هو واضح في لبنان وسوريا واليمن والعراق والبحرين وفي كل مكان”. أضاف أن “أميركا تحتاج الى العراق” لأن القوات غير النظامية التابعة لإيران “عازمة على طرد القوات الأميركية من العراق”، والمنطقة.
نورييل روبيني حذّر من أسلوب “الخطوتين المتتاليتين” الذي تحدّث عنه جو بايدن في مقابلته مع توم فريدمان. دعا الى “مفاوضات متوازية” بحيث السلوك الإقليمي والصواريخ يتم التفاوض عليها بالموازاة مع العودة الى الاتفاقية النووية ويتم رفع بعض العقوبات على مراحل محذّراً من رفع العقوبات كمدخل الى احياء JCPOA لأن ذلك سيعزّز قدرات إيران و”حزب الله” على التدخل والتوسّع اقليمياً. رأي روبيني أن إدارة بايدن ستفكر بصورة أعمق وستعيد التفكير بحذر “وعندما سيجلسون معاً، الأرجح أنهم سيتوخّون الدقة nuanced في تناولهم الشرق الأوسط بصورة كلّيّة holistic وبالتالي لن يكون هناك قفزة أوتوماتيكية الى JCPOA وإنما سيكون هناك تفكير في تسلسلية تؤدي الى التعاطي مع الاستقرار الإقليمي الأوسع”.
ما يجدر بالرئيس المنتخب جو بايدن أن يفعل هو أن يتجنّب الادلاء بمواقف على نسق ما قاله في حديثه مع فريدمان. فهو بذلك يقدّم شحنة ثقة وغطرسة الى “الحرس الثوري” والقيادات الإيرانية العازمة على استخدام إحياء الإتفاقية النووية لتوطيد وتعزيز سياساتها التخريبية في لبنان والعراق وسوريا. على الرئيس المنتخب وفريقه الحذر من الهرولة ما لم يكن في أذهانهم فعلاً إحياء العجرفة الإيرانية ودعم “الحرس الثوري” وأدواته داخل إيران وخارجها.