المقابلة التي أجراها الموقع الإعلامي الناطق بالروسية “Meduza” مع المرتزق الروسي في سوريا مارات غابيدولين ، تحولت إلى مادة سجال واسع بين المواقع الإعلامية الناطقة بالروسية ، بين مرحب بما قاله غابيدولين ، وبين من اعتبر المقابلة مختلقة من أساسها هي والمرتزق نفسه . النتيجة الأولى ، التي أسفرت عنها المقابلة ، تمثلت فــــــــي سحب المرتزق في اليوم التالي للمقابلة، مخطوطة مذكراته مـــــــن دار النشر ، وتخليه عـــــــن نشر الكتاب ، إذ لم يكن يتوقع ، كما يبدو ، هذه الحدة في السجال بين النخب الروسية المدافعة عن إنخراط روسيا في الحرب السورية ، وبين متسائل عن جدواها . وكان هو نفسه قد عبّر في نهاية المقابلة معه عن خشيته على سلامته الشخصية بسبب نشر مذكراته ، وإن كان قد استبعد ، أن يُقدم أحد على مثل هذا الأمر ، “لأن هذا سيقود مباشرة إلى من يقف وراء ذلك”.
تعددت كثيراً المواقع الناطقة بالروسية ، التي إما اعتبرت المقابلة مختلقة هي والمرتزق نفسه ، وإما اعتبرت أنها تتضمن الكثير من المغالطات والأخبار الملفقة عن الحرب السورية ودور الشركة العسكرية الروسية الخاصة “فاغنر” في هذه الحرب . ناشر المقابلة موقع “Meduza” عينه ، وفي اليوم التالي لنشرها ، قال بأن أكثر من 20 موقعاً ، بما فيها البرافدا الشهيرة يوماً ما ، نشرت ملاحظات لكاتب من أصل روسي مقيم في كندا يقول ، بأنه وجد جملة من الأمور الملفقة وغير المتطابقة في حديث مارات غابيدولين.
موقع “السياسة الدولية” الروسي ينقل عن موقع آخر قصة رجل من منطقة لوغانسك في الدونباس شرقي أوكرانيا (جمهورية لوغانسك المعلنة في الدونباس وغير المعترف بها ، إحدى البؤر الرئيسية للنزاع الروسي الأوكراني) وافق مع مجهولين ، مقابل مئة ألف روبل ، على إجراء مقابلة يقول فيها ، بأنــــه مقاتل في “فاغنر” . ويقول الموقع ، بأنهم يدعون دوماً الرجال من الدونباس لتصوير شرائط فيديو مماثلة ، يتحدثون فيهاً دوماً عن خدمتهم في صفوف شركة “فاغنر” . وينقل الموقع عن سكان لوغانسك قولهم ، بأن مبلغ مئة ألف روبل ، هو مبلغ كبير مقارنة بأجورهم ، حيث يكفيهم لمدة عام كامل . ويؤكد الموقع ، أن الرجل المعني ، وافق على إجراء مقابلة مع صحافيين أجانب أكدوا له ، بأن صورته لن تظهر في الفيديو . والفيديو ، الذي يتحدث الرجال خلاله عن دورهم في “فاغنر” قد تكرر غير مرة في الفترة الأخيرة ، وهو ما يعتبر أمراً مشبوهاً ، يشبه المقابلة مع مارات غابيدولين ، برأي الموقع.
موقع قناة تلفزة روسية “Delovoe” يقول ، بأن مادة إستفزازية أخرى عن مقاتلي “فاغنر” نشرتها المطبوعة اللاتفية “Meduza” . هذا الظهور المتكرر في وسائل الإعلام الروسية الليبرالية ل”منشورات مزيفة” عن المقاتلين المتطوعين الروس ، يعلق عليه كاتب وخبير عسكري الروسي … باعتباره ، أن ما قاله مارات غابيدولين ، الذي “يزعم” بأنه يعمل في “فاغنر” ، لم يحمل جديداً ، بل كرر المزيفات المعروفة منذ زمن بعيد . ويذكّر الكاتب بشخص روسي ادعى ، أنه ضابط روسي شارك في حرب الشيشان ، وأكد أن مقاتلي “فاغنر” شاركوا في النزاع الهندي الباكستاني في كشمير ، وفي فنزويلا ، وافتضح أمره في اللقاء مع الصحافيين . كما ذكّر هذا الكاتب الخبير بما أشيع مؤخراً ، خلال الإحتجاجات الشعبية في بيلاروسيا ، عن دخول مئات العناصر من مقاتلي “فاغنر” لتنظيم إنقلاب ضد الديكتاتور ألكسندر لوكاشنكو ، مما هدد حينها بنشوب نزاع دولي.
ويعتبر الكاتب ، أن الصحافيين ، الذين يلهثون وراء السبق الصحافي ، يحبون الكتابة عن المقاتلين المتطوعين الروس . ويقول ، بأن موضوع “فاغنر” يكتنفه الغموض ، مما يجعل كتّاب الأخبار الصحافية المزيفة يأملون ، بأن يتقبل القراء أي معلومة عن المجموعة ، بأنها صحيحة كلياً. وهذا هو حال غابيدولين الذي أراد ، على الأرجح ، أن يقوم بحملة دعاية لنفسه ، و”فاغنر” أصبح إسماً ذا سمعة سيئة ، يتمسح به كل من يتصيد شهرة.
التجييش الإعلامي ، الذي اجتاح عشرات المواقع الروسية الموالية المغمورة ، لم يقتصد في كيل أقذع السباب والشتائم بحق “Meduza” ومعها المرتزق نفسه . أحد هذه المواقع “مجتمع السياسة” يقول ، بأن القوزاقي غابيدولين ( هو مسلم من بشكيريا ، وليس قوزاقياً) ، الذي أرسلوه ، جبان وخشي التحدث عن “فاغنر”. ويقول الموقع ، أن أجهزة الإعلام الليبرالية تواصل النشر عن المدعو مارات غابيدولين ، وتحاول جاهدة تقديمه قائداً سابقاً لمفرزة إستطلاع في الشركة العسكرية الخاصة “فاغنر” . فما نشره موقع “Meduza أخذت تنشره المطبوعات الأخرى ، ذات المنحى الليبرالي ، مما جعل غابيدولين ينوء بعبء الشهرة ، التي لم يكن ، على الأغلب ، يأمل بها ، خاصة في الإدعاء بأنه مقاتل سابق في “فاغنر” ، مما دفعه للتراجع في اليوم التالي عن نشر كتاب مذكراته . ويرى الموقع ، أن تراجع غابيدولين عن نشر مذكراته ، أثار غضب “حاويات القمامة” في الصحافة المعارضة ، لأنه سيضيع فرصة التحدث إلى العالم عن تحرير تدمر وعن معارك دير الزور . ويرجح الموقع ، بأن يتحول الليبراليون قريباً إلى مهاجمة السلطات الروسية ، إذ أن الصحافة المعارضة الليبرالية تستخدم دائماً موضوع “فاغنر” لهذا الغرض ، ولن تشكل هذه الحادثة إستثناءاً.
موقع “infonavigator” الأوكراني ، وعلى خلفية العداء الروسي الأوكراني المحتدم ، له تأويلاته الخاصة لمقابلة المرتزق الروسي وما تلاها. فهو يرى في المقابلة “عاصفة إعلامية” تلف الآن مؤسسة المرتزقة الروس “فاغنر” ككل . ويعتبر أن هذه العاصفة ، التي تترافق مع تراجع وتائر الاقتصاد الروسي وعجز الموازنة الإتحادية والتحلل الداخلي لنظام بوتين ، تفضي مجتمعة الى التراجـــــع التدريجي للتواجد الروسي فـــي العالم . ويرى في تراجع غابيدولين عن نشر مذكراته ، تدبيراً من جانب الأجهزة الأمنية الروسية للدعاية لهذه المذكرات ، من أجل إستخدامها من قبل هذه الأجهزة ضد وزارة الدفاع الروسية ، بهدف تشويه السمعة المضخمة ، التي بناها وزير الدفاع سيرغي شويغو للقوات المسلحة الروسية على حساب الإنتصارات السورية الوهمية ، برأيه . وهو يرى ، أن غابيدولين يهدف من وراء مذكراته للتكسب المادي ، ومشاركة الآخرين في الإستفادة من سمعة “فاغنر” ، التي تم توظيف الكثير من الجهود فيها.
ويوجز الموقع الأوكراني دلالات مقابلة غابيدولين ، كما يراها، في ست نقاط : المقدم ديمتري أوتكين ، قائد “فاغنر” ، هو أرفع هامة من مؤسسة الجنرالات الروس ، وجعل المقاتلين لحماً مدافعاً ؛ حياة المقاتلين لا تعني شيئاً أمام أهمية حقول النفط السورية بالنسبة لممول “فاغنر” يفغيني بريغوجين ؛ تسود الوساطة في تعيين كادرات “فاغنر” ، وهو ما تسبب بخسارة ليبيا ؛ الجيش الروسي في سوريا ، هو في رحلة عمل وليس في حرب ، وبدون “فاغنر”، لم يكن ليحرز شيئاُ ، سوى عراضات التبجح في قاعدة حميميم ؛ القوات الخاصة والمخابرات العسكرية الروسية كانت تعمل على نحو سيئ في الجبهة الأمامية ، ولم تكن تفعل شيئاً في المؤخرة سوى حماية الجنرال السوري سهيل الحسن ؛ بقاء “الصحراء البيضاء” تحت سلطة الدولة الإسلامية في سوريا ، يعني ، أن الإنتصار على داعش ، الذي تحدث عنه بوتين ، ليس موجوداً حتى الآن.
وإحدى أهم الأفكار ، التي تتضمنها مذكرات المرتزق غابريدولين ، يراها الموقع في القول ، بأن سوريا هي المستوى الأقصى لتطور النزعات غير المرغوبة ، والموجودة في روسيا أيضاً . وتتمثل هذه النزعات في النفاق ، والمعايير المزدوجة ، الإنتهازية ، عدم النزاهة ، الفساد المتوحش ، و”من يعيش في حماه لا يهتم مطلقاً لأمر من يعيش في تدمر … ونحن نقترب من هذا المستوى من عدم المسؤولية واللامبالاة”.