مرّت في العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري الذكرى السابعة لاختطاف مجموعةٍ، تُشير جميع القرائن إلى انتمائها إلى “جيش الإسلام”، أربعةً من أبهى وجوه الثورة السورية المغدورة في مدينة دوما في غوطة دمشق الغربية: رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي.
قبل اختطافهم بشهرين، كان نظام الأسد في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2013 قد تمكّن من اعتقال فائق المير في دمشق، بعد أن غيّب أو قتل في السنتين الأوليين اللتين تلتا اندلاع الثورة أفراداً مثل عمر عزيز ويحيى الشربجي وغياث مطر ومعن العودات وفاتن رجب وجهاد محمد وعلي الشهابي وخليل معتوق وعبد العزيز الخيّر، وتكفّل حلفاؤه باغتيال مشعل تمّو، واضطر إلى مغادرة سوريا بعد تعذّر التخفّي داخلها العشرات من أمثالهم، ممّن كانوا على اختلاف منابتهم وتجاربهم ومقارباتهم السياسية ونشاطهم، قادةً محليّين أو ناشطين سياسيّين أصحاب مشروعية شعبية وخطاب وطني وعلاقات تهدّد النظام وفلسفته الطائفية للسياسة والعنف والاصطفاف في سوريا.
وبالعودة إلى رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي وفائق المير، المغيّبين منذ أواخر العام 2013، يفيد التذكير بأمرين.
الأوّل، أنهم شكّلوا نسيجاً سياسياً هو من الأكثر تجسيداً لمعاني الكفاح السوري من أجل الحرّية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي. فهم من جيلَين، جيل سميرة وفائق الذي نشط وقاوم نظام حافظ الأسد وسُجن في عهده (عشر سنوات في حالة فائق وأربع سنوات في حالة سميرة)، واستمرّ معارضاً لنظام بشار الأسد، وسُجن (في حالة فائق) تكراراً في عهده “الجديد”؛ وجيل رزان ووائل وناظم، المستهلّ نشاطه السياسي والحقوقي بعد وراثة بشار لأبيه، والمؤسّس لجاناً محلية ومركز توثيق ومواقع إعلامية للمساهمة في تنظيم الثورة وفعاليّاتها ونشر أخبارها وتدوين يومياتها بعد العام 2011، والملتقي ميدانياً مع ممثّلي الجيل السابق، مكملاً معهم سيرة السوريين في كفاحهم المرير ضد نظام التوحّش وسرقة الأعمار.
والأمر الثاني، أن هؤلاء جميعاً، من الجيلين، تكاثر عليهم الأعداء المحليّون والخارجيّون، فواجهوهم بصلابة ورفضوا كل مساومة، وفي ذلك ما أفضى إلى تغييبهم. واجهوا النظام وحلفاءه الإيرانيين وميليشياتهم المذهبية التي اجتاحت سوريا بدءاً من العام 2012. وواجهوا بعض الفصائل المعارضة، وفي مقدّمها فصائل إسلامية وأُخرى جهادية كانت بدأت للتوّ بالصعود والانتشار في المناطق المحرّرة، حيث فرضت سياسات وانتهاكات هي أشبه بالصورة المصغّرة عن سياسات النظام نفسه وانتهاكاته (وبعض قادتها وافدون أصلاً من أقبية سجونه). وفي حين اعتقل النظام فائقاً، خطف فصيل إسلامي رزان وسميرة ووائل وناظم، ليتشارك عدوّان في خنق الكفاح التحرّري متمثّلاً بمجموعة نساء ورجال من جيلَيه المخضرم والجديد.
وقد سبق فعلَي الاختطاف في الغوطة والاعتقال في دمشق التكريسُ الأكثر بربرية لثقافة النظام في ممارسة عنفه: هجماته الكيماوية على مدن وأحياء في الغوطتين الشرقية والغربية، قتلت ليل 21 آب/أغسطس 2013 أكثر من 1500 مدني، قضوا اختناقاً في بيوتهم أو في شوارع خرجوا إليها ظناً أن الهواء الطلق سيقيهم من تنشّق غازات السارين السامة. فالهجمات تلك، في ما هو أبعد من المجزرة المباشرة التي تسبّبت بها، هدفت إلى تخطّي “الخط الأحمر” الأمريكي الشهير وتأكيد حصانة النظام المحميّ من روسيا (والصين) وإيران، والقول للسوريين جميعاً إن لا قانون ولا تحذيرات ولا قوى أو هيئات دولية قادرة على فعل شيء للجم القتل الذي يتعرّضون له أو تحديد أسلحته ونُطُقه. وهي عنت أيضاً أن لا عزم لمن أسموا أنفسهم “أصدقاء سوريا” على التدخّل لوقف المقتلة لأسباب مختلفة يبقى أن مؤدّاها كان تسليط الموت على المكافحين لانتزاع حرّيةٍ والذود عن كرامةٍ والبحث عن عدالة.
وليس مبالغةً الزعم بأنّ المذبحة الكيماوية العام 2013 والصفقة الروسية الأمريكية التي تبعتها، ثم الجرائم المتنقّلة بالبراميل المتفجّرة وسياسات الحصار والتجويع والتدمير الممنهج وصولاً إلى ظهور صور عن صناعة الموت في المعتقلات الأسدية والتقارير حول الإعدامات وإخفاء الجثث فيها، أدّت إلى تحوّلات خطيرة في خريطة الصراع في سوريا، المتهاوية أطره وآفاقه الوطنية. فنموّ الحالة الداعشية تلا صيف العام 2013. وتراجع الجيش السوري الحرّ تلا بدوره تلك الحقبة، والخروج الأكبر للسوريين من بلدهم نحو دول النزوح واللجوء حصل في السنتين التاليتين، وتخلّله أحياناً ركوب البحر والموت في أعماقه.
وآثار المذبحة المذكورة أدّت كذلك إلى تحوّلات في المنطقة والعالم. فحماية النظام بعدها عنت أن القتل مباحٌ داخل سوريا وخارجها طالما أنه محميّ بحقّ نقض في مجلس الأمن أو بمصالح ومخاوف دولية (وهمية أو واقعية) أو بعدم اكتراث رأي عام، أو حتى بتشكيك بالمسؤوليات والروايات وبتداول الشائعات والمعلومات المزوّرة حوله. وهذا حكماً سهّل الاجتياح الروسي لسوريا واحتلالها العام 2015، وسهّل التدخّلات العسكرية الإيرانية والسعودية والإماراتية في الحرب اليمنية. وإذا عطفنا على ذلك حقيقة أن اللجوء السوري الكثيف إلى الدول الغربية والحملات اليمينية المتطرفة ضده هناك ساهمت في تصاعد خطاب عنصري وإسلاموفوبي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ترافق مع الحرب على “داعش” ومع الاعتداءات الإرهابية في فرنسا، لأمكننا اعتبار أن العام 2013 أسّس في أهواله لأوضاع سياسية جديدة في العالم بأسره.
بهذا المعنى، مثّلت المذبحة الكيماوية وإفلات مرتكبيها من كلّ عقاب، ومثّل معها تشابه ممارسات الأعداء ميدانياً ضدّ ممثّلي جيلين من المكافحين سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً ضد النظام وسجونه منعطفاً لم تعد سوريا ولا الصراعات فيها وعليها من بعده هي ذاتها. وأدّت كل التطوّرات التي رافقت ذلك وتلته إلى تفاقم أمراضٍ سياسية لم يشف العالم منها بعدُ، ولا يبدو أنه سيُشفى في المقبل من الأيام طالما أن حصانة القتَلة تجد من يدافع عنها أو يغضّ الطرف عن أصحابها أو يميّز بين ضحاياها.