“تحدثتُ اليوم أمام مجلس الوزراء حول الخطة الاستراتيجية لمكافحة الفساد (…) وعن الآلية المتبعة”، بهذه العبارات يقدم وزير العدل في حكومة النظام السوري، أحمد السيد، نفسه، كوجه جديد يقول إنه يريد مكافحة الفساد وإساءة استخدام السلطة، ليجتهد بإصلاح منظومة العمل في وزارته للمصلحة العامة.
وبأدبيات تنمية الحكومات هذه خاطب الوزير، في أكثر من مناسبة، الرأي العام، منذ تسميته وزيرًا للعدل بموجب المرسوم رقم “221” لعام 2020، في 30 من آب الماضي.
وفي أثناء مناقشة أعضاء “مجلس الشعب” أداء وزارة العدل والقضايا المتصلة بها، في تشرين الثاني الماضي، قال الوزير السيد، إن “مكافحة الفساد لن تنتظر الانتهاء من تطوير القوانين”، لأن القوانين النافذة حاليًا إلى جانب العلوم القانونية “قادرة على مكافحة الفساد”، مبينًا أهمية التعاون الوثيق مع السلطة التشريعية لتجسيد قواعد العدالة القضائية بأقل التكاليف.
إلا أن تلك الخطابات لوصف كيفية تصرف المؤسسات العامة التابعة لوزارته في إدارة عملها لم تخرج عن نطاق المؤتمرات الصحفية والخطابات الحكومية.
تعدٍ غير مسبوق
في 6 من كانون الأول الحالي، أصدر وزير العدل التعميم “رقم 28″، الذي أهاب من خلاله بالقضاة الموكول إليهم أمر النظر بدعوى فك احتباس الحفارات والآلات غير المرخصة التي تُستخدم في حفر الآبار وجوب وجود الترخيص الأصولي لدى إعطاء القرار بفك احتباس أي حفارة.
واعتبر بعض القانونيين والمحامين السوريين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هذا التعميم “تغولًا” (تعديًا) من قبل السلطة التنفيذية في سوريا على القضاء.
وقال المحامي السوري عارف الشعال، عبر صفحته في “فيس بوك“، إن “التغوّل وصل إلى مستويات غير مسبوقة، فقد أصدر وزير العدل اليوم التعميم (رقم 28) الذي يخاطب به قضاة الحكم مباشرة، وجّه إليهم بمقتضاه تعليمات (…) دون أن يتكئ على أي نص قانوني يحظر على القضاة ما طلبه منهم سوى اجتماع مع وزارة الموارد المائية”.
ولا تقتصر المخالفة القانونية في التعميم أعلاه على توجيه تعليمات من الوزير إلى القضاة، بل لا يملك وزير العدل بوصفه ممثلًا للسلطة التنفيذية أي صلاحية قانونية تخوله مخاطبة قضاة الحكم نهائيًا، وفق المبدأ القانوني “الفصل بين السلطات”.
وبالتالي، فإن هذا التعميم الذي يعتبر تدخلًا بالسلطة التقديرية للقاضي يوصف بانعدام قانونيته ولا يتمتع بالشرعية، وفق رأي المحامي الشعال.
وبحسب التعليقات من قبل قانونيين عبر “فيس بوك“، اعتبر بعضهم تعميم وزير العدل “عنترة” غير مقبولة من قبل السلطة التنفيذية على سير عمل القضاة، لأن القاضي غير ملزم باتباع أي تعميم يتناقض مع نص دستوري أو قانوني.
ويعتبر “استقلال القضاء” المبدأ الأول من المبادئ العامة الضابطة لأعمال السلطة القضائية، وهو أحد مقومات الدولة القانونية، ويؤدي استقلال السلطة القضائية إلى حصانتها، وذلك من خلال منع السلطة التنفيذية من التعدي عليها والتدخل في شؤونها وأعمالها.
ونصت المادة “رقم 132” من الدستور السوري لعام 2012 على أن “السلطة القضائية مستقلة، ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال، ويعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى”.
ولكن هذه المادة تظل “حبرًا على ورق” طالما أن الدستور نفسه أعطى (كما دستور عام 1973) لرئيس الجمهورية، وهو نفسه رئيس السلطة التنفيذية، سلطة التشريع، وإصدار القوانين خارج انعقاد دورات مجلس الشعب، وحتى في أثناء انعقادها، كما لرئيس الجمهورية سلطة التشريع في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين، وفي هذا تعدٍ على اختصاص السلطة التشريعية، ثم تعدٍ على اختصاص السلطة القضائية وتعطيل لوظيفتها من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية معًا.
اقرأ: “الفصل بين السلطات”.. مبدأ قانوني مفقود في الدستور السوري حاضر في الخطابات الحكومية
والهدف من استقلال القضاء تحرره في إدارته وممارسته لاختصاصاته من أي تدخل من جانب السلطة التنفيذية، وعدم خضوعه لغير القانون، على عكس ما جاء في التعميم أعلاه، فقد أعطى وزير العدل تعليمات محددة للقضاة كي يعملوا بمقتضاها، وهذا ينافي مبدأ “استقلال القضاء”، ويؤثر بالنتيجة على حقوق الأفراد وحرياتهم.
ويرتبط استقلال القضاء بمبدأ “الفصل بين السلطات”، لأن مقتضى هذا المبدأ هو أن تستقل كل سلطة من سلطات الدولة في مباشرة الوظيفة التي أسندها الدستور، وعدم تركيز السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) في يد شخص أو هيئة واحدة، إنما توزيعها بين هيئات متعددة، فلا يتفق مع هذا المبدأ الجمع بين السلطتين التنفيذية والقضائية، لأن هذا الجمع سيؤثر على استقلال القضاء.
وبموجب المادة “رقم 133” من الدستور السوري لعام 2012، “يرأس مجلس القضاء الأعلى رئيس الجمهورية، ويُبين القانون طريقة تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه”.
وعندما يكون وزير العدل، الذي هو أحد أعضاء السلطة التنفيذية، نائبًا لرئيس مجلس القضاء الأعلى، وعندما يسمي وزير العدل معظم أعضاء المجلس، يصبح استقلال القضاء “نكته سمجة”، بحسب تعبير المحامي السوري ورئيس “تجمع المحامين السويين”، غزوان قرنفل، في حديث سابق إلى عنب بلدي، الذي اعتبر أن السلطة التنفيذية “افترست” السلطة القضائية منذ الستينيات في سوريا.
ويتبع المحامون العامون في المحافظات السورية إداريًا لوزير العدل التابع للسلطة التنفيذية، وهم المعنيون باقتراح التشكيلات القضائية وتنقلات القضاة، وبتلك التبعية لن يجرؤوا على مخالفة أوامر وتعليمات الوزير، وفق قرنفل.
وتخرج الوزير أحمد السيد من كلية الحقوق بجامعة “دمشق” في عام 1994، وتولى مهام قاضي تحقيق أول، ثم قاضي تحقيق مالي ومحامٍ عام في محافظة ريف دمشق، ومحامٍ عام أول بمدينة دمشق، ومستشار لمحكمة النقض، وفق ما نشرته وكالة السورية الأنباء الرسمية (سانا).
وكان وزير العدل فيما مضى يخاطب المحامي العام باعتباره رئيس النيابة العامة، ويوجه من خلاله بشكل غير مباشر ما يريد من قضاة الحكم، أو يخاطب القضاة عمومًا بناء على قرارات مجلس القضاء الأعلى، وفق ما أوضحه المحامي الشعال، في منشوره عبر “فيس بوك”، أما أن يوجه التعليمات لقضاة الحكم مباشرة مستخدمًا تعبير “نهيب” الذي يحمل معنى صارمًا بدلًا من تعبير “نلتمس” الذي يحمل معنى الرجاء والذي يليق بالسلطة القضائية، فهي سابقة غير معهودة “لا تبشر بالخير”، وفق تعبير الشعال.
ولا يمكن الحديث عن استقلال للقضاء في سوريا، إلا بإعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى بحيث يمكن للوزير أن يكون عضوًا مراقبًا فيه لا يحق له ترؤسه أو التصويت فيه، ولا يحضر جلساته التأديبية.
–