“كشخص ولد ونشأ في سوريا، لا أشعر بانتماء كبير لأصولي الشيشانية، ولأنه عُرف عند الجميع، أفتخر بأصولي مهما كانت”.
أسهمت عائلة لوسن عز الزين (23 عامًا)، وهي شابة سورية شيشانية الأصل، تنحدر من مدينة القنيطرة جنوبي سوريا، بتنمية شعور الانتماء لبلدها الأم، الشيشان، لكن المجتمع السوري المحيط أنساها ذلك الشعور، بحسب ما قالته لعنب بلدي.
“من الممكن أن تكون صورة الانتماء لدى الشيشان السوريين مختلفة عما أمتلكه”، أضافت الشابة العشرينية، مشيرة إلى أنها وعائلتها لم يحافظوا على عاداتهم الأصلية، واندمجوا بشكل كامل في المجتمع السوري، باللغة العربية والثقافة والتاريخ.
وعزت الشابة لوسن الاندماج واندثار اللغة إلى وجودها مع عائلتها في منطقة جميع سكانها سوريون، إذ أقامت قبل لجوئها إلى تركيا في مدينة داريا بريف دمشق، غربي العاصمة السورية، ولم تختلط بالسوريين الشيشانيين، كما أنها حاولت تعلم اللغة الشيشانية لكن كان ذلك صعبًا عليها، بحسب ما ختمت حديثها.
التوزع الجغرافي
شيشان سوريا مواطنون سوريون من أبناء القومية الشيشانية، أقلية عرقية، وفدوا إلى سوريا من موطنهم الأصلي، جمهورية الشيشان، بعد الغزو الروسي لبلادهم في القرن الـ18.
وهم قومية مستقلة، مسجلة لدى سجلات الدولة العثمانية في دمشق، ومعترف بها ضمن الصفحة المخصصة لتقسيم طوائف وقوميات سوريا زمن العثمانيين، حالهم كحال القوميات الأخرى من الشعب السوري.
وتقع جمهورية الشيشان في منطقة جبال القوقاز، تحدها من الجنوب داغستان وجورجيا، ومن الشمال داغستان وروسيا، ومن الغرب أوسيتا الشمالية وأنغوشيا، ويتحدث مواطنوها اللغة الشيشانية، وهي اللغة القومية لشعب الشيشان، إلى جانب اللغة الروسية.
تمركز الشيشان جغرافيًا، لمئات السنين، عند تقاطع مناطق نفوذ كل من الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وعاشوا تحت السيطرة العثمانية في بداية القرن الـ17، لكن القوقاز كانت غالبًا منطقة نزاع بين العثمانيين وروسيا القيصرية في القرون الـ17 والـ18 والـ19.
وبعد عدة صراعات بين هاتين القوتين، فرضت الإمبراطورية الروسية سيطرتها على الشيشان في عام 1859.
وفي أثناء الاضطرابات التي صاحبت الغزو الروسي، فر بعض الشيشان إلى المناطق المجاورة التي لا تزال تحت السيطرة العثمانية (الأناضول وأرمينيا وأذربيجان)، بحسب بحث لعالم الأنثروبولوجيا في جامعة “اليرموك” الأردنية وصفي كيلاني.
تناول البحث بعنوان “الشيشان في الشرق الأوسط: بين الثقافات الأصلية والمضيفة”، “الشتات الشيشاني” في الشرق الأوسط، وتحدث عن هجرات الشيشان خارج بلدهم الأصلي.
وذكر أن الأحداث السياسية في الإمبراطورية العثمانية بعد 50 عامًا دفعت بعض الشيشان إلى الانتقال مرة أخرى.
انتهز بعض الشيشان في هذه المنطقة، بحسب العالم، الفرصة للتوغل بشكل أعمق في الإمبراطورية العثمانية، بما في ذلك أجزاء من دول الأردن وسوريا والعراق، وذلك عندما بدأ الأتراك الشباب ذو التوجهات القومية بالاستيلاء على الأناضول خلال العقد الأول من الـ20.
وكان أحد الأسباب التي دفعت السلطات العثمانية إلى تشجيع الشيشان على الاستقرار في هذه المناطق هو أن يكونوا بمثابة حصن ضد تعدي القبائل البدوية في شبه الجزيرة العربية.
وأجبر التقدم الروسي في آسيا الشيشان على الهجرة عام 1861 باتجاه الإمبراطورية العثمانية، وأسكنهم العثمانيون على الحافة الغربية من الصحراء السورية، لمنع اعتداءات القبائل، بحسب الباحث بالتاريخ الاجتماعي والسياسي السوري مهند الكاطع.
وبحسب مقال للباحث، بنى الشيشان مستوطنة لهم في مدينة رأس العين، شمال غربي محافظة الحسكة، على الحدود السورية- التركية، على أنقاض المدينة القديمة التي كانت خرابة لعدة قرون، كما بنوا قرى أخرى في المحيط، وسموها بأسماء الذين لقوا حتفهم في القوقاز.
وزرع الشيشان أراضي في محيط رأس العين، وأقاموا في قرى تل الرمان والقارة والسفح.
هجرات متتالية
وبحسب ما أورده الباحث في مقاله، امتاز الشيشان بالشجاعة والاستقلالية، وعلى الرغم من بدئهم الزراعة على ضفاف نهر “الخابور”، لم تسمح لهم غزوات العشائر المحيطة بالاستقرار الزراعي كما يريدون.
وأسهم انتشار الأمراض، وهجرة قسم منهم إلى مدن الرقة ودير الزور، في انخفاض أعدادهم، بالإضافة إلى أن عددًا كبيرًا منهم لم يتحمل المناخ وهجمات البدو، فعاد بعضهم إلى موطنه في القوقاز وهاجر بعضهم في اتجاهات أخرى.
وجد المهاجرون الشيشان إلى سوريا مواطنهم الجديدة في مرتفعات الجولان، واستوطنوا بشكل أساسي في مدن القنيطرة ورأس العين وقرية السفح التي تبعد عن رأس العين مسافة عشرة كيلومترات، والقامشلي والرقة ودير الزور.
واتسمت المرحلة الأولية لاستيطانهم بالصراع مع السكان المحليين العرب والدروز، بحسب ما أورده الكاتب أمجد جيمخا في كتابه “The Chechens” (الشيشان).
وفي غياب الأرقام الرسمية حول أعداد الشيشان في سوريا، قدر الكاتب أعدادهم بحدود ستة آلاف إلى 35 ألفًا عام 2008.
ووفقًا للكاتب، أسفرت الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1967 عن “طرد” تجمع الشيشانيين من مرتفعات الجولان، ونزوحهم إلى مواطنهم الجديدة في العاصمة السورية، دمشق، كما أسفرت عن بعض الهجرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بمساعدة “مؤسسة تولستوي” (Tolstoy Foundation)، وهي منظمة خيرية غير ربحية، يقع مقرها الرئيس في مقاطعة روكلاند بولاية نيويورك.
“البعث” أجبر على الاندماج
وبينما استطاعت أقلية الشيشان في الأردن الحفاظ على لغتها وثقافتها، لم ينجح شيشان سوريا والعراق في ذلك، وكان ذلك، إلى حد كبير، بسبب “عدم تسامح” نظام “البعث” الحاكم حينها في البلدين، بحسب الكاتب جيمخا، وعمل عدد كبير منهم في المجال النفطي.
الأمر الذي أكده عالم الأنثروبولوجيا وصفي كيلاني، وهو أن الجالية الشيشانية في الأردن تمكنت من الحفاظ على هوية شيشانية منفصلة تمامًا، مشيرًا إلى أن هذا كان ممكنًا إلى حد كبير لأنهم نجحوا في إقامة علاقة وثيقة مع الأسرة الهاشمية الحاكمة، وحافظوا على درجة من الاستقلال الاقتصادي.
لكن في الوقت نفسه، اندمج الشيشان في مجتمعات الشرق الأدنى والأوسط الأخرى إلى حد كبير في الثقافات العربية والتركية المحيطة.
وذكر كيلاني أن أحد أسباب عدم تمكن الشيشان من الحفاظ على هوية منفصلة في العراق وسوريا هو أن أحزاب “البعث” الحاكمة في هذه البلدان صادرت أراضيهم وأجبرتهم بشكل أساسي على الاندماج في الثقافة الأكبر.
لكن الباحث مهند الكاطع قال، في حديث إلى عنب بلدي، إن اندماج الشيشان بالمجتمع السوري هو أقدم بكثير من تاريخ ظهور “البعث”.
فالمجتمع الشيشاني يعيش في وسط تجمعات قرى وبلدات عربية، وبالتالي وخلال أكثر من قرن ونصف من الزمن، من الطبيعي أن يندمجوا في المجتمع ويكتسبوا هوية محيطهم، خاصة أنه منذ تأسيس سوريا الحديثة كانوا مكتسبين لجنسيتها، والبعض منهم ترقى في سلم المسؤولية والمناصب في الدولة والجيش، وبالتالي فإن الحديث هو عن سوريين من أصول قوقازية، وليس عن شيشان أو شركس بمعزل عن محيطهم الثقافي والاجتماعي.
وفيما يتعلق بنظام “البعث”، أضاف الباحث أنه منع جميع السوريين من التعرف إلى بعضهم، أو التعريف بثقافات وفلكلور كل منطقة سورية كما ينبغي، وبإنصاف، بل كان النظام يتعمد عبر الدراما إظهار الدروز في جبل العرب بصورة تهكمية، كذلك فعل مع أبناء الجزيرة الفراتية الذين كان يظهرهم بصورة “الرعوي المتخلف”.
أما بالنسبة للأقليات اللغوية والإثنية، فهو لم يكن يذكرها أبدًا، ولم يشجع إظهار الفلكلور الخاص بها وثقافتها، فعلى الرغم من اندماج الأقليات بالمجتمع السوري ضمن السياق التاريخي الطبيعي، يبقى هامش من الفلكلور والخصوصية التي يمكن للدولة الاعتناء بها في حال كانت هناك رغبة منها في الحفاظ على نسيج اجتماعي متعايش، لكن النظام كان يفعل العكس، بغية إحداث شرخ قابل للانفجار بين جميع أطياف المجتمع السوري، وفقًا للباحث.
–