إبراهيم العلوش
الحادث الأخير الذي تفجر في منطقة بشرّي ضد السوريين وترحيلهم الجماعي منها، يسلط الأنظار من جديد على العلاقات اللبنانية- السورية ومشاكلها الشائكة، اعتبارًا من جرائم حافظ الأسد وغازي كنعان ورستم غزالة ضد اللبنانيين، وصولًا إلى جرائم “حزب الله” في سوريا، وأعمال التحريض ضد السوريين من قبل أنصار الجنرال ميشال عون وجبران باسيل.
في 23 من تشرين الثاني الحالي، حدثت جريمة جنائية قام بها أحد السوريين ضد مواطن لبناني إثر شجار فردي انتهى إلى إطلاق النار وقتل اللبناني جوزيف طوق، وبعدها سلّم اللاجئ السوري نفسه فورًا لمخفر الشرطة في بشرّي.
بعد الحادث استنفرت حملات الحقد والتجييش ضد السوريين، عبر المطالبة بترحيل كل السوريين من بشرّي وهم حوالي مئتي عائلة، وذلك من قبل مناصري الرئيس اللبناني، ميشال عون، وحزبه، ورغم الأصوات العاقلة التي استنكرت التجييش ضد اللاجئين الأبرياء، فإن جموع العنصريين حاصرت مخفر الشرطة مطالبة بتسليمها اللاجئ السوري والاقتصاص منه مباشرة بقتله أمام الجمهور، لكن النيابة العامة اللبنانية أعلنت نقل المتهم إلى طرابلس تفاديًا للتصعيد.
يتعرض اللاجئون السوريون لكثير من المضايقات والاستفزازات في شتى بلدان اللجوء المحيطة بسوريا، لكن الاستفزاز في الأراضي اللبنانية هو الأشد عنفًا والأكثر عنصرية رغم كل ما يجمع الشعبين من روابط ومن جوار ومن تبادل للمصالح.
فرغم جرائم نظام الأسد في لبنان التي ارتكبها الأسدان الأب والابن وأجهزة المخابرات السورية في لبنان، فإن النظام اللبناني اليوم من أكثر الأنظمة دعمًا لنظام بشار الأسد، والأكثر استخفافًا بمأساة اللاجئين السوريين وبأبعادها الإنسانية والأخويّة.
وحدها ثورة اللبنانيين، في 17 من تشرين الأول 2019، كانت ترى الحقيقة واضحة، وهي أن دعم بشار الأسد هو دعم للسيطرة الإيرانية في لبنان، والتخلي عن اللاجئين السوريين ورميهم في محرقة الأسد هو تدمير للعلاقة السورية- اللبنانية وللآفاق المقبلة في تلك العلاقة، سواء بتحويل لبنان إلى طرف فعّال في صناعة السلام في سوريا، أو في القبول به كقاعدة للإعمار أو كقاعدة اقتصادية استراتيجية مربحة للشعبين اللبناني والسوري.
أمام تدفق البترودولار الإيراني خلال العقدين السابقين، انحازت الطبقة السياسية اللبنانية إلى الجانب الإيراني، وأطلقت يد “حزب الله” في شؤون لبنان، وشجعته على التورط في المجزرة السورية مقابل تدفق الأموال من قبل الإيرانيين ومن قبل أنصار الأسد إلى البنوك اللبنانية، التي صرح بشار الأسد بأنها تبلغ 40 مليار دولار.
ولم تدرك القوى الحاكمة بأنها تبيع لبنان لإيران، وتقطع علاقاته التاريخية مع العالم العربي، الذي طالما كان داعمًا للاقتصاد اللبناني، سواء عبر تدفق العمالة اللبنانية إليه أو عبر السياحة أو الاستيراد منه، أو عبر إدخاله بشراكات خليجية مع الأوروبيين والعالم الغربي، أنعشت الاقتصاد اللبناني وحلّت كثيرًا من مصاعبه التي جرّها عليه نظام الأسد ومخابراته إبان الحرب الأهلية.
ولكن مع إفلاس إيران والعقوبات المتلاحقة ضدها وضد النظام السوري، وآخرها قانون “قيصر”، تبين للطبقة السياسية اللبنانية بأنها رهنت نفسها للنظام الإيراني، وأن الخلاص من السرطان الفارسي شبه مستحيل بعد أن أدار العالم العربي ظهره للبنان، وبعد هبوط مستوى التعاطف الغربي والأمريكي معه.
البطرك الماروني بشارة الراعي، وبعد انسياقه السابق مع حلف الأقليات الداعم لبشار الأسد، وتجاهله الجانب الإنساني في مأساة اللاجئين السوريين، عاود الدعوة إلى حياد لبنان بعدما صار ذلك الحياد من الماضي البعيد، بسبب جرائم “حزب الله” في سوريا، وبسبب التجييش العوني ضد اللاجئين السوريين. والبنوك اللبنانية صارت تستجدي المساعدات من الغرب ومن دول الخليج العربية، على الرغم من استمرار تسليم لبنان للقوى الإيرانية وأعوانها الذين يعمّقون عزلته مع محيطه السوري ومع محيطه العربي.
المهجّرون السوريون الذين تم طردهم من مدينة بشرّي من قبل الجحافل العونية، وصلوا إلى طرابلس واعتصموا أمام مقر مفوضية اللاجئين يعرضون حالهم وما فعلته العنصرية بهم من إعادة تهجير، بعد حرق منازلهم التي كانوا يستأجرونها من اللبنانيين ويدفعون إيجاراتها بشكل منتظم، وتقول بعض الأنباء إن السلاح المستعمل في الجريمة تعود ملكيته للقتيل الذي قد يكون متورطًا باستعداء اللاجئ السوري الذي لا يزال يخضع للتحقيق لدى الجهات الرسمية.
مهما كانت مواقف بعض السياسيين اللبنانيين، وبعض الأفراد، مشحونة بالعنصرية وبالحقد على السوريين، فإن لبنان يظل بلدًا محبوبًا لدى السوريين، ويظل أهل لبنان مثالًا للتحضر واللطف رغم كل ما يقترفه البعض منهم من استعلاء وعنصرية ضد السوريين، ومهما كانت مآلات لبنان فإن المآل السوري هو الأهم، فمصلحتهم ليست مع الهيمنة الإيرانية بل هي مع الشعب السوري ومع الاقتصاد السوري الذي سيعاود النهوض فور الخلاص من عصابة الأسد وأتباعها، ولن يتمكن اللبنانيون من الخلاص من السرطان الإيراني إلا بالتعاون مع السوريين الذين يتألمون مثلهم من هذا الوباء الكارثي.
بقي أن نقول، إن بلدة بشرّي ولد فيها جبران خليل جبران، وكانت في أخيلتنا مثال للرومانسية والهدوء، ولم نتوقع أن يكون فيها كل هذا الحقد العوني ضد السوريين، رغم أن كثيرًا من أهالي بشرّي الطيبين صاروا يتصلون بالمهجرين السوريين ويدعونهم للعودة إلى منازلهم المستأجرة في البلدة، ولم يبقَ إلا أن تقوم جهة رسمية بضمان سلامة السوريين العائدين إلى بشرّي، والذين لم يتورطوا أبدًا في أي ضرر ضد اللبنانيين.