أسامة آغي
يبدو القرار رقم “24” بتاريخ 19 من تشرين الثاني الحالي، الذي انفرد رئيس “ائتلاف قوى الثورة” بإصداره دون موافقة من الهيئة السياسية، والخاص بتشكيل “مفوضية عليا للانتخابات”، أنه قفزة في المجهول، فدوافع إصداره لهذا القرار تبدو ذات طبيعة ذاتية وأخرى موضوعية.
القرار المذكور كشف بصورة نهائية عن قدرة هذه المؤسسة (الائتلاف) على قراءة تطورات الملف السوري منذ تشكيلها عام 2012، وبيّن بصورة عميقة، ضعف الترابط بين قوى المعارضة في سوريا، وهو أمر أنتج منصات عديدة، هي بالأساس منصات ضعيفة على المستوى الشعبي.
كما أن ضعف بنى المعارضة سياسيًا وتنظيميًا، وقيام الدول المتدخلة في ملف الثورة بإضعاف دور تنسيقيات الثورة، واحتواء بعض منها، أدّى بصورة ما إلى ضمور دور هذه التنسيقيات، وتبعية كثير من قوى المعارضة لأجندات إقليمية ودولية مختلفة، وهذا الأمر انسحب على التشكيلات العسكرية (فصائل الثورة)، كما انسحب على بنية مؤسسة “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”.
إن بيان “جنيف 1” عام 2012، والقرار “2118” عام 2013، هما من أسسا لصورة الحل السياسي للصراع بين النظام السوري والثورة السورية، وكان هذان القراران يعكسان ميزان قوى قائمًا على الأرض لمصلحة الثورة السورية، بينما أتى التدخل العسكري الروسي لمنع إسقاط النظام في الربع الأخير من عام 2015، ليغيّر في ميزان القوى لمصلحة النظام السوري، وهو أمر ارتبط بقرار دولي جديد غامض ومشوش هو القرار “2254” عام 2015، ويختلف عن سابقيه (بيان جنيف1 والقرار 2118) بتجاهله لتراتبية ثلاثية الحل، هذه التراتبية هي الحوكمة (هيئة حكم انتقالية تنتقل إليها صلاحيات منصب رئاسة الجمهورية وكذلك صلاحيات الحكومة)، والدستور، والانتخابات برعاية دولية كاملة.
إن المعارضة السورية التي اضطرت للقبول بالقرار “2254”، هي من بدأ سلسلة الانحدار حيال مطالب الثورة، وحيال تنفيذ القرارين السابقين، وهي فعلت ذلك لأنها بالأساس لم تمتلك القدرة على ضمّ الملفين العسكري والسياسي الثوري تحت جناحيها، وهو أمر سمح للقوى الخارجية بفرض مؤتمر “الرياض 1” ثم “الرياض 2″، ولم تحتمِ بحاضنتها الشعبية.
تشكّل “الهيئة العليا للمفاوضات” جاء عمليًا بقرار من أطراف دولية، كان لها مصلحة بإيجاد إطار سياسي، يشكّل “الائتلاف” جزءًا منه، إذ حاز “الائتلاف” في هذه البنية الجديدة، التي انفردت فعليًا بمسألة التفاوض، على نسبة 66% من عدد أعضاء هذه الهيئة، ثم بعد سنتين تقريبًا، أرادت المجموعة الدولية المتدخلة بالصراع السوري إضعاف “الرياض 1″ بحجة تشدده، فأتت بـ”الرياض 2″ الذي صار لـ”الائتلاف” فيه نسبة أعضاء 40%، ثم قامت المجموعة الدولية بابتكار ما سمي باللجنة الدستورية، وهي لجنة ينبغي أن تتشكّل وتقوم بعملها وفق القرار الدولي “2118” بعد تشكيل هيئة حكم انتقالية.
إن هذا الانحدار السياسي في قدرة المعارضة السورية على الإمساك بملف الصراع، كشف أيضًا عن أن المعارضة السورية المرتبطة بجذر الثورة (تغيير نظام الحكم الاستبدادي وبناء نظام حكم ديمقراطي) هي قوى خارج أطر هذه المعارضة بصورة عامة، وهي تفتقد إلى التنظيم والتأطير والبرنامج، لذلك بقيت محصورة في إطار الاحتجاج الصغير، (اعتصام، تظاهرات صغيرة، نشاط على السوشال ميديا).
إن المعارضة وقوى الثورة العسكرية كانتا مطالبتين منذ بدء التدخل العسكري الروسي، وغياب الدعم الحقيقي من “مجموعة أصدقاء سوريا”، بمراجعة استراتيجية عملها، فشروط الصراع وظروفه تغيرت، بينما هذه المعارضة لم تحاول تغيير استراتيجيتها، وهذا ما جعلها تخسر شيئًا فشيئًا على صعيد ميزان القوى، الذي رجح لمصلحة النظام وحلفه الروسي- الإيراني.
إن القرار “24” الذي أصدره رئيس “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، الدكتور نصر الحريري، هو قرار أتى نتيجة موضوعية للسياق الذي مرّت به قوى الثورة منذ التدخل الروسي، أي سياق القبول بتقديم التنازلات.
هذا القرار، ينبغي ليس مجرد رفضه وطيّه، بل يتطلب القيام بمراجعة ثورية حقيقية، تقوم بها قوى الثورة والمعارضة، التي لم تنخرط بقبول سياسة فرض الأمر الواقع، التي تحاول قوى دولية تمريرها على السوريين.
المراجعة المطلوبة تتمثل بعمل، وليس بمجرد هجمات كلامية، وهذا العمل يتلخص بمراجعة جديدة للسياسات التي تنتهجها المعارضة وقوى الثورة، ووضع إطار تنظيمي لتوحيد الجهود، التي تمنع مزيدًا من الانحدار والتفريط بمطالب السوريين الخاصة بالانتقال السياسي الحقيقي، من دولة استبدادية إلى دولة مؤسسات ديمقراطية، وهذا أمر يحتاج إلى الالتفاف حول “هيئة التفاوض السورية”، لدعم إصرارها على تزامن السلال الأربع، ومنع النظام من اللعب بالوقت، عبر جدولة المفاوضات. وبإمكان “هيئة التفاوض” اللجوء إلى الحاضنة، التي بدأت فعالياتها تولد من جديد، كي تقوّي موقفها التفاوضي.
إن الدعوة إلى عقد مؤتمر للقوى الشعبية الثورية والوطنية كانت خطوة صحيحة، ولكنها خطوة ناقصة، بسبب عدم دعوة جميع قوى المعارضة إلى التباحث حول المؤتمر، وأهدافه، ومخرجاته، على قاعدة رفض تقديم التنازلات السياسية، التي تسمح باستمرار النظام بصورة جديدة.
انعقاد المؤتمر بصورة سريعة، ينبغي أن يتبعه تشكيل إطار عمل واحد، بأهداف محددة، مرحلية، أو استراتيجية، أي ببرنامج عمل ممكن وملموس، يمنع تقديم تنازلات، وهذا يأتي من خلال تحويل المؤتمر الشامل إلى مرجعية عمل وطني أساسية، هذه المرجعية يمكنها أن تلعب دور برلمان مؤقت، ريثما يتمّ تفعيل تنفيذ القرارات الدولية (بيان جنيف 1، والقرار 2118، والقرار 2254) كسلة واحدة متكاملة، تفضي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي تتلوه انتخابات بعد صياغة دستور للبلاد.
مؤتمر القوى الوطنية، كي ينجح بمنع التنازلات السياسية، يحتاج إلى مرونة عالية، بكيفية إدارة ملف الصراع مع النظام أمام المجتمع الدولي، وهذا يعني أن أي عمل سياسي لن ينجح من دون أن تحمله قوى الشعب السوري، أي بمعنى آخر، عدم تقديم تنازلات بخصوص بيان “جنيف 1” والقرار “2118”، والضغط لاستصدار قرار دولي يُجبر النظام على تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالصراع السوري.
إن وجود مرجعية لاتخاذ قرارات وطنية حاسمة “برلمان مؤقت”، ستمنع مؤسسات المعارضة من القفز فوق إرادة هذه المرجعية، كما ستجبر القوى الدولية المنخرطة بالصراع في سوريا على مراجعة استراتيجياتها السابقة، والكفّ عن تبديد مطالب التغيير السياسي التي يريدها السوريون، وهذا يجعل السلطة الحقيقية لإدارة الصراع مع النظام وأمام المجتمع الدولي بيد قوى الثورة من خلال هذا “البرلمان” الشامل لكل السوريين.
إذًا، العملية متكاملة، تتمثل بضرورة وجود مرجعية وطنية “برلمان مؤقت”، هي من يشرف على عمل المؤسسات التنفيذية (ائتلاف وهيئة تفاوض وحكومة مؤقتة)، وكذلك ضرورة التخلص نهائيًا من الفصائلية، والعمل على وحدة قوى الثورة العسكرية بجيش حديث مهني، لا يتدخل بشؤون الناس في مناطقه، وضرورة توسيع الحياة المدنية وتفعيل منظمات المجتمع المدني وقوى الرقابة بشتى مسمياتها.
هذا يتطلب تغيير بنية “الائتلاف”، وتغيير آليات عمله، ما يساعد على تجدده، ومنع استخدامه كأداة بيد قوى دولية لها أجندات خاصة بها في الصراع السوري، لا مصلحة للسوريين فيها.
فهل يستطيع مؤتمر القوى الوطنية السورية تجاوز عثرات المعارضة، أم أن الوقت لم يحن للتغيير الجدي للأمور، وأن ما يحدث ليس أكثر من رد فعل ينتهي بعد وقت قصير.