آثار سُرقت وأخرى لحقها الدمار
آثار الرقة.. إرث تاريخي تهمله السلطات ويعتدي عليه المواطنون
الرقة – حسام العمر
عند سور الرقة الأثري ترى الحجارة المبعثرة جراء قصف يعود لأعوام ثلاثة قرب ركام السيارات المهملة، وبين جدران “قصر البنات” تجد النفايات المرمية دون اهتمام على الأرض، في حين تنصب خيام النازحين على تل “البيعة” الأثري.
في المدينة الشرقية التي يغذيها نهر “الفرات” منذ القدم، قامت حضارات متتالية منذ العصر البرونزي، الذي يزيد عمره على خمسة آلاف عام، وتركت آثارها في كل ركن من الأرض، وازدهرت عليها فنون العمران الإسلامي خلال العقود الأولى من عصر الخلافة العباسية.
مر عليها البيزنطيون والرومان قبل أن تصبح مدينة شهيرة بهندستها الإسلامية، لكن كل حضارة أبقت على ما قبلها دون تدمير وتخريب، إلى أن أتى دور تنظيم “الدولة الإسلامية” ليعتبرها عاصمة لـ”الخلافة” مرة جديدة.
بالنهب والسلب، والتدمير عمدًا أو دون قصد، تحولت المواقع الأثرية إلى ضحية أخرى للحرب وهجمات أطراف النزاع، لكن حال السلم لم يجلب لها الطمأنينة أو الراحة، وترميمها عالق بانتظار جهود لم تثمر بعد.
يتأمل أحمد سور مدينته الأثري الذي طاله الدمار، ويقول لعنب بلدي إن القصف والغارات الجوية خلال المعارك ما بين “التحالف الدولي” وقوات التنظيم كانت سببه الأكبر.
“إنقاذ الآثار والحفاظ عليها واجب على الجميع”، حسب اعتقاد الشاب الثلاثيني، إلا أن الواقع ليس بتلك السهولة.
قيّمت “لجنة الثقافة والآثار”، التابعة لـ”الإدارة الذاتية” العاملة في شمال شرقي سوريا، الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية، ورغم تحديدها المواقع التي تحتاج إلى الترميم والرعاية، فإن “قلة الإمكانيات المادية حالت دون ذلك”، حسبما قال أحد أعضائها، طلب عدم نشر اسمه، لعنب بلدي.
اقتصرت عمليات الترميم التي يحتاج إليها كل من السور القديم وباب بغداد، وقلعة “جعبر” في مدينة الرقة، على خطوات أولى من الترميم البسيط، مع عدم قدرة العاملين على تأمين ما يلزم لإصلاحها في ظل الإمكانيات المحدودة.
ومن الأمور “الخطيرة” التي تتعرض لها آثار الرقة، تجاوزات يقوم بها الأهالي، دون وعي وتقدير، من التدمير غير المقصود أو المتعمد أحيانًا والتلويث والتخريب، كحال “قصر البنات” الذي تحول جزء منه إلى مكب للنفايات في حين هُدمت أقسام أخرى.
وحال تل “البيعة” الأثري، شمال شرق المدينة، تقترب من حال “قصر البنات”، مع تحوله إلى مكب أيضًا، ولكنه يزيد بتحوله إلى مخيم للنازحين الذي أقاموا خيامهم على أرضه، وبدؤوا بنشاطات للتنقيب غير المشروع والحفر بشكل سري بحثًا عن الآثار لبيعها في السوق السوداء وتهريبها خارج الرقة.
كما أشار عضو “لجنة الثقافة والآثار” إلى الخطر الذي تواجهه المواقع الأثرية نتيجة جهل الأهالي والنازحين بالضرر الذي يلحقونه بها نتيجة تحويلها إلى مساكن، وقيامهم بممارسات “لا تليق بمكانتها التاريخية”.
وأعلنت منظمة “RehabiMed”، في 7 من تشرين الثاني الحالي، عن إطلاقها مشروع “توثيق وحماية التراث الثقافي في مدينة الرقة” قبل ما يزيد على شهر، الذي يقترح تشكيل فريق من الخبراء المحليين لتقييم حالة الآثار ومدى الدمار وتحديد أولويات الإصلاح، مع تثقيف السكان بأهمية المواقع الأثرية.
ويتضمن المشروع مشاركة معهد “CSIC” الفرنسي ومنظمة “التراث للسلام”، والسلطة المحلية في شمال شرقي سوريا، وبتمويل من “صندوق حماية التراث”، التابع للمجلس البريطاني.
آثار سُرقت وأخرى لحقها الدمار
تعود آثار الرقة إلى بداية بنائها من قبل سلوقس الأول، الجنرال اليوناني التابع للإسكندر المقدوني، الذي أسس الدولة السلوقية، عام 242 قبل الميلاد، ولكن أغلب معالمها التي ما زالت قائمة تعود إلى فترة حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن الثامن الميلادي.
شهدت مواقعها الأثرية، التي قدر مدير متحفها الأثري محمد عزة، في حديثه إلى موقع “روناهي” في آب الماضي، عددها بحدود 500 موقع، ما بين تلال ومبانٍ ظاهرة أو مغمورة بالتراب، نهبًا متزايدًا منذ عام 2011، وفقًا لتقدير وكالة الأمم المتحدة للبحث والتدريب (يونوسات)، في تقرير صدر في تشرين الأول من عام 2014، وذكر أن النهب كان على أشده مع بدء قوات تنظيم “الدولة الإسلامية” إحكام سيطرتها على المنطقة.
تناوبت أطراف مختلفة السيطرة على مدينة الرقة السورية، التي كانت أولى المدن التي خرجت عن سيطرة النظام السوري عام 2013، ووقعت تحت سيطرة فصائل معارضة سرعان ما تغلبت عليها قوات التنظيم بعد عام واحد.
إعلان التنظيم المدينة كعاصمة لـ”الخلافة” جعلها الهدف الرئيس لغارات قوات “التحالف الدولي” وهجمات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ذات القيادة الكردية، التي تمكنت بعد ثلاثة أعوام من إحكام سيطرتها على الرقة بعد أن لحقها دمار واسع.
بعد سيطرة “قسد” على الرقة عام 2017، وإنشاء “مجلس الرقة المدني”، لم تعطِ مؤسساته أهمية لترميم الآثار، على الرغم من إحداثه “لجنة الثقافة والآثار”، التي ركزت على الحفلات التراثية والنشاطات الفلكلورية، وأهملت ترميم أي موقع أثري، باستثناء مرحلتين لترميم متحف “الرقة”، الذي كفلته منظمة “خطوة جديدة” العاملة في الرقة.
“المديرية العامة للآثار والمتاحف” التابعة لحكومة النظام السوري قدرت، في أيلول من عام 2017، حجم الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية في المحافظة، والتي طالت 15 موقعًا، من أصل 710 في عموم سوريا.
المتحف، الذي كان “سرايا” قديمة من العهد العثماني، واحتفظ منذ عام 1981 بآثار كلاسيكية وأخرى تتعلق بالشرق القديم والعصر البرونزي والفترة الإسلامية، تعرض لسرقة تسعة صناديق ولدمار بالأبواب والنوافذ نتيجة انفجار حصل فيه.
مسجد “المنصور” (العتيق)، الذي بني في عهد الخليفة “أبو جعفر المنصور” في القرن الثامن، والذي وضعته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) ضمن القائمة المرشحة للتصنيف كمواقع للتراث العالمي مع بقايا آثار المدينة العباسية في حزيران من عام 1999، طالته حفريات بالآليات الثقيلة، في حين اقتحمت قوات التنظيم قلعة “جعبر”، ومبنى “هرقلة”، وسرقت مئات القطع الأثرية منها.
تلال الرقة التي ضمت آثار مدن قديمة بأكملها لم تسلم كذلك من التنقيب غير المشروع والنهب، فمن تل “البيعة”، الذي ضم آثار مدينة “توتول القديمة” المذكورة في الوثائق المسمارية والتي يعود تاريخها إلى عصر البرونز المبكر في الألفية الثالثة قبل الميلاد، مثل تل “حمام التركمان”، وتلي “الشيخ حسن” و”شاهين” اللذين يعودان إلى الفترة البيزنطية، وتلي “الصبي أبيض” و”مفش” اللذين تعود آثارهما حتى نهاية الألفية السادسة وبدايات الألفية الخامسة قبل الميلاد في العصر الحجري الحديث، وتلي “دامر الشرقي والغربي”، كلها تعرضت للضرر والتخريب.
وذكرت “يونسكو”، في موقعها الخاص بحفظ التراث السوري، أن التراث الأثري الحضري والمعماري في سوريا تعرض لأضرار استثنائية “واسعة النطاق”، نتيجة استخدام مواقعه لأهداف عسكرية وجعله هدفًا للقصف والتفجير المتعمدين، والتنقيب غير المشروع والدمار المقصود والبناء غير القانوني والاحتلال البشري المؤقت، في حين أسهم أهل المنطقة ببعض الحالات بتأدية دور مهم لحماية التراث.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :