فواز تللو – سياسي وكاتب سوري معارض
في مثل هذه الأيام منذ ثلاث سنوات حصلت المجزرة في داريا، أحسسنا يومها بالعجز والقهر، لكن ثوار المدينة فهموا الابتلاء بشكل آخر واستوعبوا الدروس والأخطاء وانطلقوا، فحققوا ما يشبه الإعجاز في ساحات الجهاد العسكري والمدني بأقل القليل بوجه عدو يملك الإمكانات المادية والأعداد البشرية ومع ذلك يقف عاجزًا.
إنجازات اعتقد كثيرون أنها إعجازية خارج المنطق الدنيوي، لكنها كانت بمنطق السنن الدنيوية التي خلقها الله لا خلافها، سنن صنعت تجربة الثورة في داريا الصامدة اليوم بعد ثلاث سنوات من المجزرة.
قبل الثورة بسنوات تحرك نخبة شبابها من أجل مدينتهم لينشروا الصلاح مقابل الفساد، والنظام مقابل الفوضى، وقدموا المصلحة العامة على الخاصة، فكافأهم النظام بالسجن، وعندما بدأت ثورات الربيع العربي وقبل أن تبدأ الثورة السورية كانوا موجودين في كل مناسبة من أجل الثورة المصرية والليبية، ثم من أجل معتقلي الرأي في اعتصام وزارة الداخلية الشهير قبيل انطلاق الثورة السورية ودفعوا الثمن دائمًا سجنًا وملاحقةً.
وانطلقت الثورة..
في أول يوم للثورة السورية حضرت داريا بـ 40 متظاهرًا سلميًا، وفي تشييع الجمعة العظيمة كان 40 ألف متظاهر ومتظاهرة في الساحات، وعلى مدى العام والنصف أعطت مثالًا لمعنى الثورة السلمية «الهجومية» الأكثر وعيا وعمقًا، فقد فهم شبابها مدرسة اللاعنف كتحدٍ للطغيان بدون سلاح دافعين الثمن اعتقالًا وشهادة.
تصاعد القتل والتنكيل وبدأت المجازر تعم سوريا، رفعت طفلة لافتتها الشهيرة «يا رب تنتصر الثورة قبل ما يجي دوري»، وتصاعدت الدعوات بين ثوار المدينة لحمل السلاح قبل أن يصيبهم مصير «أصحاب الأخدود» على يد طاغية الشام، وهنا استغل النظام دخول السلاح ليغدر بالأهالي في مجزرة هي الأكبر في سوريا (آب 2012).
وعي حاملي السلاح
عندها حسمت داريا قرارها بحمل السلاح، وبدأ التحضير للحظة التحرير لا باستجلاب السلاح فقط بل ببناء مجلس محلي مدني يتشارك فيه القرار الثوار ممن حملوا السلاح والثوار الذين جاهدوا في مواقع مدنية، وما هي إلا أشهر حتى حانت اللحظة وباتت داريا خلال ساعات حرة، لكن محاصرة.
في داريا يوجد فصيلين فقط (ليس واحدًا مع الأسف) وقيادة عسكرية واحدة، ويمر السوريون على التجربة بإعجاب شديد دون أن يلفت نظرهم قائد ملهم أو أمير للمؤمنين أو خليفة منتظر أو طامح، فالكل يقول «ثوار داريا»، الكل للواحد والواحد للكل.
وربما كلما ذُكرت داريا تذكر الناس الشهيد غياث مطر رحمه الله، لكن لا يدرك كثيرون أن هناك آلاف مثل «غياث» بين شبابها صنعوا معًا الثورة، ولن أدخل في الأسماء فذلك ليس عدلًا وفق «نهج» داريا فقافلة الثوار أحياء وشهداء مستمرة.
رسالة إلى العالم من تحت الحصار
تذهل داريا العالم بالمبادرات المدنية والثقافية والإعلامية التي تنطلق من داخل الحصار، تذهل العالم بطفل يقرأ القرآن ليتلقى علاجه بعد القصف بدون تخدير، تذهل العالم بثوارها الذين باتوا على أسوار مطار المزة لتحقق انتصارات وتحرر بدل أن تسقط وهي المحاطة بمستوطنات الاحتلال الطائفي وأفرع الجوية وما هب ودب من الثكنات.
تذهل العالم، بل تغيظ كثيرين، بعدم سماحها للمعارضة بالتجارة بمعاناتهم كما فعلت في باقي المناطق، وربما أكثر ما يميزها هو «المناعة» التي تمتعت بها ضد جرثومة «المعارضة» بكل تشكيلاتها السياسية الفارغة وهيئاتها العسكرية الخلبية وحكومتهم الفاشلة.
نعم هناك أخطاءٌ في تجربة داريا، لكن أصحابها يتعلمون منها ويصححون المسار، واليوم وبعد ثلاث سنوات من المجزرة وعامين ونصف من التحرير والحصار ما زالت المدينة صامدة وما زالت النموذج.
وبغض النظر عن نتائج المعركة، فإن تجربة أعمدتها الإخلاص والصواب والتعلم من الأخطاء والعمل الجماعي ووحدة الكلمة والهدف والرؤية للعمل العسكري والمدني وتشجيع المبادرات والحذر من الفاسدين الفاشلين، لنموذج من المفيد تعميمه لتحقيق النصر السريع وفق بوصلة الثورة.
بعيدًا عن الإمارات والخلافات
في زمن السلمية ومنذ اليوم الأول كانت داريا نموذجًا وتمسكت بسلميتها ما لزم الأمر ذلك فكانت آخر من حمل السلاح في الثورة، وعندما حانت لحظة التحول إلى العمل المسلح تعلمت من أخطائها بسرعة، وقيادتها العسكرية كانت خالصة صادقة ملتزمة بلا تجاوزات، وسط الانحراف الذي أصاب آخرين فأفقدهم حاضنتهم الشعبية وحرفهم عن أهدافهم، لم يقيموا إمارة ولا خلافة ولا بيعات وقطع رؤوس ولا قمعٍ للناس تحت غطاء الشريعة وولاء لهذا التشكيل أو ذاك، بل إيمان وفهم إسلامي واعٍ.
وحتى عندما أدار ثوارها مفاوضاتٍ مع النظام حول الهدن التي اختلقها لإضعاف خصومه وتشتيتهم وبث الفرقة بينهم، أزعج ذلك الأسد وأوقفها في داريا بعد إدراكه أن ألاعيبه لن تمر.
مع أن داريا قريبة جدًا من دمشق بل هي عمليًا جزءٌ من دمشق، لا يحلم قادتها بالسيطرة على دمشق ليحكموها بديلًا للنظام، ولا يهدد مقاتلوها بدخول دمشق لاستباحتها ومعاقبتها على جريمة سكوتها تحت وطأة الاحتلال الغريب، فهم يشعرون بآهات دمشق الأسيرة تماما كآهات نصف حلب الغربية ونصف دير الزور ونصف درعا وكل حماة وكل إدلب قبل تحريرها، آهات الأسيرة الصامتة لا صمت الرضا.
بقدر حنين دمشق لآلاف من أبنائها المعتقلين وبقدر حنينها للحظة حريتها، تنتظر دخول شبابها وإلى جانبهم شباب غوطتها وشباب داريا خاصة في طليعة من يدخلوا دمشق محررين، فدمشق تاجٌ لا يكون إلا بجواهر بلدات غوطتيها، كما الثورة لا تصح بدون أيقونتها «داريا».