بيلسان عمر – دمشق
أرجيلة، نرجيلة، أركيلة، نركيلة، شيشة، مهما اختلفت الأسماء فكلها باتت اليوم موضة العصر، إذ تحولت بعض أزقة دمشق وحدائقها ومحالّها، حتى التجارية منها، إلى مجرد مقاعد مبعثرة، يجلس أناس يدخنون الأركيلة، ويشربون شايًا وقهوة ومتّة.
وبين جالس وواقف ومضطجع وشبه نائم يروح ويجيء «شوفور الصينية» ملبيًا طلبات الناس، في جو تسوده الفوضى وأصوات القذائف والصواريخ، وسحب الدخان التي تغطي الريف الدمشقي المجاور، وأخبار مجازر هنا وهناك، يتناقلها الناس بأصوات خافتة، خوفًا من مندسين بينهم يكتبون تقارير ولو بخط غير جميل، مع قرقرة الأراكيل والسعلات الجافة وخطا أقدام خادم الجالسين الثابتة، تعلو تلكم الأخبار، وتهزأ منها بحجة العجز وقلة الحيلة.
ومع كل جمرة توضع على نرجيلة الزبون تحرق معها إنسانية بشر آخرين قابعين في أماكن أخرى بيدهم القرار غير آبهين هم الآخرون بما تفعل جرّات أقلامهم وتصريحاتهم بالمدنيين.
الأركيلة وحّدت الشعب
ما لم تستطع جهود عالمية وأحزاب وقوى سياسية أن تفعله في توحيد الناس على اختلاف أعمارهم ومذاهبهم، تمكنت الأركيلة من فعله، فلا طائفية مع الأركيلة، ولا فرق بين ذكر وأنثى، ولا بين صبي وشيخ وشاب، ولا بين أب وابنه، وأم وابنتها، ولا بين مهجّر ومقيم، ولا بين غني وفقير، الكل سواسية أمام وريقة ملفوفة تنباك، أو علبة معسل، وحجر أركيلة يشتعل مع أمل أن يحرق معه كل ثورات الجوع والغضب والخوف وغلاء الأسعار ولا إنسانية الحكومات، والوقت الذي لا يمشي لعمالة حقيقية أو مبطّنة، والفكر الذي تراوده مشاريع إصلاحية تحرق صاحبها نيران الحرب وأطماع تجار الدم، فيفضّل أن يحرق أحلامه مع هذه النرجيلة، قبل أن تطاله نيرانها.
ألو أركيلة
أخي المواطن: إن واجهتك مشكلة ما فما عليك إلا الاتصال برقم المؤسسة التي تتبع لها مشكتك، وإبلاغها بما يجري، وإليك بعض الأرقام احفرها في ذاكرتك، الإسعاف المدني (110)، شرطة النجدة (112)، الإطفاء (113)، الإسعاف العسكري (118)، شكاوى المياه (114)، وشكاوى الكهرباء (117)، والساعة الناطقة (151)، الصرف الصحي (181)، والكل تحت خدمتك -كما تدّعي حكومتك- ولكن أن يكون خط «ألو أركيلة» هو المفعّل دائمًا، وهو الذي تحت خدمتك مهما بعد بيتك، ومهما كانت الظروف، فهم بالخدمة 24/24، حتى في نقاط عجز الهلال الأحمر السوري عن تغطيتها والوصول إليها لشدة توتر وضعها الأمني، فهذا إصلاح لم ترتق إليه مطالب السوريين الراغبين بالتغيير.
فـ «ألو أركيلة» لا تعجزه هذه النقاط، ولا يأبه بآلة الحرب التي تشنها جميع الأطراف، المهم تغييبك عن واقعك، ومساعدتك على سحب نفَس ربما يكون الأخير قبل تلاحم جسدك مع قذيفة قادمة، أو موت بطيء بذاك النفَس القاتل.
«ألو أركيلة» خدمته فاقت كل محال «الدليفري» وخدمة الزبائن، لك أن تتصل في أي ساعة، ويأتيك الطلب قبل أن تغلق سماعة الهاتف، ثم تتصل لتعلمهم انتهاء لذتك، فحالًا يأتي من يأخذ «العدّة»، فهناك حالات إسعافية أخرى تنتظر الجنود وملائكة الرحمة وموظفي ألو أركيلة، بكل ما يقدمونه من إغراءات وتسهيلات.
طفولة مرمّدة
لم يعد الأمر غريبًا أن ترى طفلًا لا يتجاوز عمره أصابع اليد الواحدة، وهو يركض لاهثًا ليملأ زجاجة الأركيلة ماءً لوالده، ويجهز له الجمرات على نار ينساها مشتعلة غالب الوقت، خوفًا من صراخ أبيه الذي يستعجله ويلاحقه بالوقت، وما إن يصل الصبي حتى يجلس بجانب أبيه، يبدل له الجمرات تلو الأخرى، وينفض له صحن الرماد، والأب غير آبه بترميده طفولة ابنه. وما يزيد المشهد ألمًا، عندما يسترق الابن لحظات انشغال والده، فيأخذ نربيش الأركيلة ويسحب عدة أنفاس منها بذاته، بل هذا أقل ألمًا من أب يشجع صغيره على ذلك، ويلتقط له صورًا متتالية، مباهية الأم نفسها أمام جاراتها «يقبر قلب أمه، الولد طالع رجال لأبوه، وصار يعرف يأركل».
كنا نعتقد أن خطر الأركيلة محصور بصاحبه، عكس التدخين فأنّى ذهبت تجد مدخنين، أما اليوم في ظل الغزو الحقيقي الرهيب لظاهرة الأركيلة، فإنك تستنشق رائحتها لا بدّ، حتى قبل صاحبها، «وأرجل شي يا معلم المعسل الملغوم»، غير متوفر في بعض الأحيان، لكنهم دائمًا يعدون بإحضاره، ويقضي الزبون وقته بين المعسل الجاف والناشف، والتبغ المنقوع في عصير الفاكهة أو الدبس أو العسل، على هيئة نكهات مختلفة ما بين تفاح وكرز وعنب وشوكولا وحتى كولا، ودون أن ننسى الأركيلة البابلية، حيث يوضع الثلج في رأس الأركيلة، حتى يخرج الدخان باردًا، وقد يضاف مشروب غازي ليبدو الدخان بنكهة أخرى.
وداعًا صحتك، وداعًا فراغك فأنت مشغول بسحب نفس ينقص لا يزيد من أنفاس حياتك، وداعًا لمخططاتك المستقبلية ففكرك مشغول بإحضار المعسّل والجمرات، وداعًا زمن الثورات فنفس أركيلة واحد كفيل بأن ينسيك الدنيا بما ومن فيها، وأهلًا بك مع «ألو أركيلة».