أسامة آغي
شكّل القرار السعودي باستبدال الأعضاء المستقلين في “هيئة التفاوض السورية” نقلة جديدة على مستوى التدخل بشأن هذه “الهيئة”، فلا بيان الرياض، الذي شُكلت بموجبه “هيئة التفاوض”، ولا النظام الداخلي لها، يقرّان الخطوة السعودية بالتدخل، وهذا إن دلّ على شيء، سيدلّ على محاولة فرض مصالح إقليمية أو دولية على بنية هذه “الهيئة” واستقلالية قرارها النسبي على الأقل.
التدخل السعودي يأتي على قاعدة صراعهم السياسي الإقليمي، وهذا أمر لا ينبغي أن تخضع له هيئة تفاوض وطنية سورية، تقول من خلال بيان تشكيلها الأول، إنها من يمثّل المعارضة السورية ومطالب الثورة ولو بحدها الأدنى، الذي يعبّر عنه القرار الدولي الشهير “2254”.
التدخل الإقليمي بتركيبة وتكوين “هيئة التفاوض السورية”، يكشف عن خلل عميق، تحاول قوى دولية، مثل روسيا أو الإمارات أو السعودية، تثبيته لمصالح أجنداتها السياسية، التي لا تتقاطع مع أجندة الثورة السورية، التي تريد نقل البلاد من نظام حكم استبدادي إلى نظام حكم تداولي مؤسساتي.
هذه التدخلات تأتي نتيجة ضعف العلاقة بين مؤسسات المعارضة الرسمية (ائتلاف وهيئة تفاوض ولجنة دستورية) وحاضنتها الشعبية، التي يمثلها جمهور ملايين السوريين المهجرين والنازحين. هذا الضعف، يجب التخلص منه عبر برنامج عمل ملموس، يغيّر في بنى مؤسسات المعارضة، كما يغيّر في أدواتها ورؤيتها ووسائلها، التي تخدم وتبرّر سبب وجودها.
التخلص من ضعف الأداء، يأتي من منع التدخلات الدولية بعمل مؤسسات المعارضة، وهذا يحتاج إلى إجراءات سياسية وتنظيمية جدية، فعلى المستوى السياسي، ليس من حق مؤسسات المعارضة (ائتلاف وهيئة تفاوض ولجنة دستورية) التخلي عن مطالب الثورة السورية الأساسية، مثل مطلب الانتقال السياسي، أو مطلب العدالة الانتقالية، وكذلك ليس من حق اللجنة الدستورية أو “هيئة التفاوض” تقديم تنازلات جوهرية في محتوى القرار الدولي “2254”.
كذلك ليس من حق مؤسسات المعارضة التفريط بحقوق الذين تمثلهم، مثل الذين تعرضوا لخسائر في الأرواح والأملاك، أو ملف المعتقلين، الذين لا يزال النظام السوري يرفض تنفيذ محتوى القرارات الدولية بشأنه، بما يخصّ الكشف عن مصير هؤلاء المعتقلين، الذين تمّ تعذيب كثير منهم حتى الموت.
ولكي تصبح مؤسسات المعارضة (الائتلاف وهيئة التفاوض) ممثلًا شرعيًا للشعب السوري الثائر على الاستبداد، تحتاج هذه المؤسسات بالضرورة إلى عمل كبير، يقطع الطريق أمام التدخلات الإقليمية والدولية بها، ولعل توسيع قاعدة التمثيل السياسي لهذه المؤسسات، وكذلك إعادة النظر ببنيتها المغلقة، من حيث منع الأعضاء شغل مواقعهم لأكثر من عامين، قد يلعب دورًا في منع التدخلات الخارجية بشأنها.
إن انتقال مؤسسات المعارضة للعمل من الداخل المحرر، سيلعب دورًا إيجابيًا وكبيرًا في التعامل معها، فانتقال اجتماعاتها، وندواتها، وتواصلها مع جمهور حاضنتها إلى المناطق المحررة، سيعزّز الثقة بها لدى حاضنتها الثورية والشعبية، وسيفرض على الدول الإقليمية إعادة حسابات تدخلها بالشأن السوري، وسيلعب هذا الانتقال دورًا مهمًا في تحصين مواقف وقرارات هذه المؤسسات.
مثل هذه الخطوات تمت بشكل خجول في الآونة الأخيرة، حيث عقدت الهيئة السياسية لـ”الائتلاف” اجتماعها الدوري في الداخل المحرر، وهذا ما ينبغي أن تفعله “هيئة التفاوض” من حين إلى آخر، وهو أمر يجعلها تستند إلى دعم حاضنتها الشعبية في الداخل المحرر.
انتقال عمل مؤسسات المعارضة انطلاقًا من الداخل، سيفتح الباب على مصراعيه لإعادة إنتاج علاقة مؤسسات الثورة العسكرية والأمنية والخدمية بالسكان، فلا تبقى المناطق المحررة تخضع لسلطات متعددة، وتحديدًا في الشقين العسكري والأمني، بل يجب أن يخضع الجميع لمؤسسات الثورة السياسية، لحكومة مؤقتة فاعلة، ويمكن الوصول إلى هذه العتبة من خلال طريقين، الأول هو مساعدة من أصدقاء الثورة السورية الدوليين، والثاني يتطلب أن تحوز قيادات مؤسسات المعارضة على ثقة حاصنتها التي تمثلها، وأن تقوم هي بالتعاون مع كل القوى السياسية والتيارات ومنظمات المجتمع المدني بإعادة إنتاج نفسها باستمرار، ومن خلال توفير مرجعية وطنية مؤقتة (برلمان مؤقت) يحاسب الجميع.
إن “هيئة التفاوض السورية” بحاجة إلى التفاف شعبي حقيقي حولها، هذا الالتفاف يجب أن تسبقه ممارسة سياسية حقيقية لـ”الهيئة”، وهذا يتمّ من خلال تعديلات عميقة في بنيتها، بحيث يضعف النفوذ الإقليمي في تكوينها، الذي تسببه منصات سياسية تعبّر أصلًا عن أجندات أقل وطنية وأكثر إقليمية، هذه المنصات ترتبط بأجندات بعيدة عن جوهر مطلب الانتقال السياسي، وليس لديها مانع من تعويم النظام بتغييرات طفيفة في شكله ومحتواه.
الالتفاف الشعبي لا يأتي بوصفة سحرية، وهذا يجب أن تدركه “هيئة التفاوض السورية” وتعمل عليه، وهو أمر يحتاج إلى مراكمة عمل حقيقي، وليس إلى مراكمة تصريحات، وقد تكون “الهيئة” بصيغتها الحالية في العتبة الأولى المُفضية إلى هذا التغيير.
الالتفاف الشعبي حول “هيئة التفاوض” ومنحها قوة وشرعية شعبية، يحتاج إلى برنامج عمل من شقين، الأول حيوية بنيتها، وجعل هذه الحيوية مستمدة من علاقتها بحاضنتها الثورية والشعبية، أما الشق الثاني فيتعلق ببرنامج عمل إعلامي تنفيذي واسع، يساعد “الهيئة” في الانتقال من موقعها الحالي إلى موقع مدعوم بإرادة السوريين، هذا البرنامج يتمّ تنفيذه عبر وسائل إعلامية مختلفة.
فهل تمتلك “هيئة التفاوض” هذه الاستعدادات؟ وهل لديها برنامج عمل متكامل يحقق تضافر محاور نشاطها؟
الإجابة وردت بصورة حية من خلال نشاط “الهيئة” ورئيسها الجديد، أنس العبدة، حيث التقت “الهيئة” منذ أيام بفعاليات سياسية ومدنية وشخصيات مستقلة، وكي تصبح لهذه الفعاليات قيمة مادية، وليس مجرد قيمة استئناسية، ينبغي أن تكون لدى “الهيئة” رؤية شاملة لتطوير أدائها وبنيتها ودورها المنوط بها كهيئة وظيفية تمثّل مصالح قوى الثورة والمعارضة.
الرؤية الشاملة هي رؤية ذات شقين أساسيين زمنيًا، الأول هو مرحلي، وهذا يتطلب برنامجًا مرحليًا لنشاطها في كل المجالات التي تخدم عملها ووظيفتها، أما الشق الثاني فيتعلق باستراتيجية تكوينها ووظيفتها، وهذا يتطلب برنامجًا واسعًا تعمل وفقه.
البرنامجان المرحلي والاستراتيجي يحتاجان إلى ذراع إعلامية غير دعوية، ذراع إعلامية لديها رؤية متكاملة حول نوعية خطابها الإعلامي، والجمهور المستهدف، والأهداف التي تريد الوصول إليها.
فهل تذهب مؤسسات معارضتنا إلى هذا التلاحم مع الحاضنة الثورية والشعبية للثورة السورية؟ أم أنها ستبقى أسيرة نمط شغلها الذي لم ينجز للسوريين الثائرين بعض ما يتوقون لتحقيقه بعد تضحيات جسام قدموها من أجل الحرية والكرامة الوطنيتين؟ السوريون ينتظرون التغيير فالاستحقاق قريب.