عنب بلدي – القنيطرة
في ريف القنيطرة الجنوبي، وعلى بعد 11 كيلومترًا عن المدينة، ضمن المنطقة “المنزوعة السلاح” الحدودية مع إسرائيل، تقع بلدة بريقة محافظة على جمالها رغم سنوات القتال وغربة الأبناء.
بعد أن سيطر النظام السوري على محافظة القنيطرة وقراها عام 2018، يعود بعض من أهالي بلدة بريقة إليها بعد أن هُجروا منها خلال الحرب، ليقوموا بترميم منازلهم وإعادة تأهيل البنية التحتية، محاولين إعادتها “مثالية”، كما اختيرت قبل 12 عامًا.
الحياة على الآثار الرومانية
فوق الحجارة البازلتية السوداء أُقيمت منازلها ذات الأسقف القرميدية الحمراء، “كانت من أجمل قرى القنيطرة سابقًا”، قال الباحث الاجتماعي “أبو البراء”، من أهالي ريف القنيطرة الأوسط، “يعود عمرها للربع الأخير من القرن التاسع”.
وتوجد في بريقة آثار تعود إلى العصر “الهلينستي”، وفيها حجارة منحوتة وأعمدة وكتابات يونانية، وزخارف الصلبان والورود وبعض القناطر الحجرية.
وكانت البلدة منطقة سياحية، تضم غابات وأشجارًا، مثل السنديان والبلوط والزعرور، وتحيطها السدود، مثل سد “بريقة” وسد “كودنا”، وعلى ارتفاع 900 متر عن سطح البحر، تمتاز بمناخ معتدل صيفًا بارد شتاء.
سكن الشركس المهاجرون من “القفقاس” في روسيا القرية لأول مرة عام 1879، وحينها لم تكن تضم سوى الآثار، التي بنى عليها السكان بيوتهم التي كسوها باللبن.
عدد سكانها كان 1350 نسمة عند تعدادهم الأخير، قبل ما يزيد على عشر سنوات، شهدوا خلالها التهجير واضطروا للنزوح، كما فعلوا سابقًا بسبب الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، قبل أن يعودوا بعد اتفاق الهدنة خلال السبعينيات.
في عام 2008، قرر أهالي القرية منع بيع الدخان، وتعاونوا معًا للحفاظ على جمالها، ما دعا وسائل الإعلام لتسليط الضوء عليها ودعوتها بـ”القرية النموذجية“.
وعن سبب تسمية “بريقة”، يتداول الأهالي سببين، الأول أن الاسم يعود لقائد روماني أقام في المنطقة، وكان يدعى “بريكة”، ونسبت القرية لاسمه، والثاني أن كثرة البرق والرعد في البلدة دعا إلى تسميتها تيمنًا به.
عادات قديمة حديثة
منذ عشرات السنين، يحافظ “أبو أنس غوكا” على عمله وعاداته في قريته، “الزراعة هي الصفة المميزة لأهل القرية”، قال الرجل الستيني لعنب بلدي، مشيرًا إلى أن البذور المزروعة في القرية حملها أجدادهم معهم من “القفقاس”.
“عندما هُجر أجدادنا من روسيا إلى القنيطرة، وبمعرفتهم بطقس المنطقة، أحضروا بذور أشجار غير مزهرة، تحتمل الطبيعة القاسية”، قال “أبو أنس” متحدثًا عن أشجار التوت الأبيض والجوز والتين والعنب، “أما في الوقت الحالي فأصبحوا يزرعون الزيتون والتفاح والرمان والكرز، عدا عن الزراعة الشتوية كالحبوب والبقول”.
يعمل “أبو أنس” بمهنة إضافية مع الزراعة، فهو مربٍّ للنحل، حاله كحال العديدين ممن اشتهرت بعملهم القرية، من منتجي العسل الطبيعي، ومربي الحيوانات، التي تنوعت بين الأبقار والأغنام والدجاج والبط.
يحافظ سكان القرية على عاداتهم الشركسية، في الزواج والسهرات العائلية واستقبال الضيوف، إذ يمتازون عند الزواج بالامتناع عن زواج الأقارب، وتسهيل المهور، التي حددوها قبل 60 عامًا وبقيت كما هي اليوم، 500 ليرة للمقدم، وألف ليرة للمؤجل، معتبرين المهر مجرد رمز لعقد القران.
كما يحافظون على سهراتهم المليئة بأصناف المأكولات الشركسية والرقصات المميزة، وتدعى السهرة “ناترف موك”، وتقام عند قدوم الضيوف من القرى المجاورة، أو نجاح الطلاب في امتحاناتهم، أو عودة الغائبين.
ومن رقصاتهم الشهيرة، رقصة التبادل والتقابل (كافا)، التي تُرقص في الأعراس، والرقصة السريعة (الششن)، وهي رقصة استعراضية تذكر بالمعارك والحروب التي خاضوها، ورقصة الإيقاع (الوج)، والرقصة الهادئة (كواشة غازة)، وجميعها تحتفل بثقافة الشراكس.
واليوم، وبعد الحرب واضطرار أهالي بريقة لمغادرتها مدة سبع سنوات، لم يبقَ منهم سوى القليل، إذ اتجه معظمهم نحو روسيا وتركيا، ولكن من بقي وعاد إلى القرية ما زال يحافظ على الطقوس والعادات.