إبراهيم العلوش
رغم رحيل وليد المعلم في يوم “الحركة التصحيحية” الأسدية في 16 من تشرين الثاني، فإن بشار الأسد لم يخرج في جنازته ولم يحضر تأبينه، متجاهلًا خدماته الكبيرة للنظام منذ ستينيات القرن الماضي بعدما التحق بالسلك الدبلوماسي في عام 1964.
قد تندرج شخصية وليد المعلم (1941- 2020) ضمن فئة من فئات رجال النظام، وهم الذين يشكلون الفئة الحرفيّة المؤهلة من جهة، وذات الطموحات الشخصية المنزوعة أو المستأصلة كليًا من جهة أخرى. ورغم خدمات المعلم وخبرته في الشأن الأمريكي والشأن الدولي، لم تكن له مكانة أكثر من مكانة مساعد أول في صفوف جيش النظام.
الذين خدموا في الجيش يتذكرون شخصية البعض من المساعدين الأولين الذين يتصفون بالمهنية من جهة وبانعدام الشخصية من جهة أخرى، فذلك النوع من حملة رتبة المساعد أول يفهم التفاصيل التنفيذية والعملية للعمل العسكري، ولا تخالطه الأوهام عن مكانته مثلما يحدث مع سيادة العميد قائد الوحدة العسكرية، وهو يقوم بواجباته بشكل دقيق من حيث إدارة العناصر أو إدارة مفرزة الانضباط أو تسلّم الباب الرئيس، أو ممارسة التعذيب على الموقوفين، أو المشاركة بالسرقات، أو كتابة التقارير بسيادة العميد وتوثيق سرقاته للجهات التي تقاسمهم المكاسب، فنظام الجيش الذي يحرم المساعد الأول من الترفيع في السلك العسكري أزال عن كاهله متاعب الطموحات التي تعذّب الضابط منذ لحظة تخرجه من الكلية العسكرية.
وكذلك فإن مسؤولًا مثل وليد المعلم كان يقوم بأداء خدماته للنظام بكل مواهبه المعروفة بالبرود والاستخفاف بالآخر التي يتفتن بها قادة النظام وتزيد من غرورهم الأجوف، وكان هو جزءًا من سلسلة من وزراء الخارجية السوريين في دولة الأسد التي ابتدأت بعبد الحليم خدام اليد السياسية والدبلوماسية لحافظ الأسد، مرورًا بفاروق الشرع الذي ابتدأ كمترجم عند حافظ الأسد وترفع إلى وزير خارجية ونائب رئيس بلا أي طموح سياسي أو شخصي، وكذلك وليد المعلم الذي ترفع في مناصبه حتى وصل إلى وزير خارجية ونائب مجلس الوزراء بلا أي موقف إنساني حتى تجاه المقربين إليه، فهو رفض التوسط لأحد أقاربه الذي كان يخضع للتعذيب في بداية الثورة، وتجاهل مصيره الغامض، متابعًا طاعته ورضوخه للتعليمات المخابراتية التي تصدر له دون أن يشوب ولاؤه رجاء منه لتخفيف العذاب عن قريبه على الأقل.
ولسنا هنا بوارد شرح أدائه الرديء منذ اندلاع الثورة، حين تحول إلى ناطق رسمي باسم غرف التحقيق، وباسم المندوبين الإيرانيين والروس، وصارت أقواله تثير السخرية حتى لدى أنصار النظام عندما محا أوروبا من الخارطة، وعندما طلب ممن يريد الاعتداء على سوريا أن ينسق مع النظام، وهذه التصريحات تتناسب مع شعارات الشبيحة وصيحاتهم في الشوارع (الأسد أو نحرق البلد) وترحيبهم بالاحتلال الإيراني ومن بعده التهليل للاحتلال الروسي، وتصريحاته تلك كانت تعابير استفزازية موجهة إلى الخارج مثلما كانت شعارات الشبيحة موجهة لاستفزاز الداخل السوري.
عندما كان المعلم مندوبًا لسوريا في الأمم المتحدة (1990- 2000)، اعتبرته الخارجية الأمريكية إحدى صلات الوصل المهمة بين النظام والولايات المتحدة، وعوّلت عليه كثيرًا قبل أن يتحول إلى أن يكون صلة الوصل المهمة بين نظام الأسد والخارجية الإيرانية، والخارجية الروسية بعدها، وهو مثل أي خادم أمين يطيع الأوامر سواء من قبل المخابرات أو من قبل المحتلين الإيرانيين أو من قبل الروس، فمكتبه الزجاجي لا ينقل إليه مشاعر السوريين ولا مهاناتهم، ولا يهمه من كل المجازر والقصف والتدمير إلا تكرار مقولات المؤامرة واصطناع البرود والثقة بالنفس إلى درجة تثير سخرية الجميع.
لقد روّض النظام أعدادًا كثيرة من الإداريين والقادة المحليين في كل المجالات، ونزع من شخصياتهم الطموح ونزع حتى حق الارتجال والتلقائية منهم، ووظفهم لاحقًا في حربه ضد السوريين، وقد استطاع أن يملأ بهم الفراغ السياسي والاجتماعي والإداري ليتمكن من إدارة هذه المجالات بحريّة، وبتحكم تام لا تشوبه الكثير من الأخطاء أو الانحرافات المفاجئة، وتجد الكثير من هذه الشخصيات المهمة في الجبهة الوطنية التقدمية وفي القيادة القطرية وفي وزارات الدولة وفي النقابات والاتحادات وفي المديريات الصغيرة للدوائر الحكومية وحتى في القرى النائية، حيث تقوم أجهزة المخابرات بمراقبة أداء هذه الكوادر ومراقبة تحولاتها وتحولات عائلاتها، والتنبؤ بكل تغير قبل حدوثه عبر سلسلة معقدة من المخبرين والمراقبين والشركاء الذين يحدّثون معلومات الأجهزة وقادة النظام بشكل دقيق ودائم.
ولعل من أهم مهام الثورة السورية هي إنهاء هذا الإنتاج البشري الأصم الذي لا يشعر بأي التزام تجاه البلاد أو تجاه البشر القريبين منه أو حتى تجاه مشاعره الداخلية. وما تنكّر وليد المعلم لقريبه الواقع تحت التعذيب إلا مجرد مثال عن تصرفات هذه النخب المسكونة عقولها وأخلاقها بثقوب سوداء، بالإضافة إلى استمرار تجاهل هذه النخب لما يجري من تدمير وتعذيب في سوريا.
وفي المقابل، فإن قطاعات كبيرة من الإسلاميين باشرت بمثل هذا الإنتاج المشوِّه للبشر، عبر الدورات الشرعية التي صارت تنتج مقاتلين ومحازبين لتلك التنظيمات تُعميهم عن الواقع وعن إحساسهم البشري باعتبار أنهم مجرد أدوات لنصرة التنظيم وقائد التنظيم. وهذا يعيد تذكيرنا مرة أخرى بأدوات النظام مثل منظمة “طلائع البعث” و”اتحاد الشبيبة” و”اتحاد الطلبة” وما إلى ذلك من أدوات إنتاج النظام لكوادره.
ورغم أن جهود الثورة السورية في وقف هذا الإنتاج البشري المشوّه والمسكون بالثقوب السوداء لم تنجز أهدافها بعد، غير أن الأحداث لا تزال تهزّ دواخل هؤلاء البشر، وقد دفعت الكثير منهم للانشقاق عن النظام، لكنها لم تنجح حتى الآن مع أمثال وليد المعلم ممن يتشبثون بدور التابع إلى درجة العبودية.
لقد رحل المعلم قبل أيام محافظًا على ثقوبه السوداء “بعد عمر ناهز المليون قتيل” كما قال قتيبة ياسين أحد المغردين السوريين لموقع “بي بي سي”.