“سوريّو الباصات الخضر”.. حكايات راشد عيسى

  • 2020/11/22
  • 12:47 م

نبيل محمد

يمكن لمقالات صحفية أن تتتالى في صفحات كتاب، فتروي قصة كاملة، شخوصها لم تبنَ على أسس روائية أو مسرحية، إنها شخصيات حقيقية، شاعر في ذلك المقال، وشخصية تاريخية في مقال يليه، وشعب هنا، وآخر هنا، تتعدد الأمكنة والبيئات، وتجتمع كلها في سوريا، واقعًا ومجازًا، في “سوريّو الباصات الخضر” مشاهد متلاحقة لسوريا، يحيط كاتبها بأبلغ ما شهدناه خلال السنوات السابقة من مشاهد حرق بلادنا، بقراءة عميقة وواعية، ومقاربات ميزتها أنها ليست في مقال واحد يعبُر في جريدة أو رابط إنترنت، إنه كتاب كامل تظهر فيه المقالات بشكل مختلف رغم أنها تحمل الكلمات والعناوين نفسها التي حملتها في مواقع نشرها المختلفة، لكنها هنا في الكتاب تبدو متماسكة مع بعضها، حكائية. أوضح وأقسى عندما نُشرت معزولة عن أماكن نشرها السابقة.

في نصوص الكتاب البالغة 32 نصًّا، والتي يبدو أن كاتبها انتقاها بمهارة إيجاد خيط جامع بينها، ليس هو المكان فقط (لا بد خلال السنوات التي كُتبت فيها هذه المقالات، أن العشرات غيرها مرّت من أمام أعين الكاتب واختار ألا يضمّنها داخل الكتاب). إن ما يجمع المقالات هنا هو متانتها جميعها، والقدرة على الخروج بعبرة منها، تستند إلى ما يستعيره الكاتب مرارًا للدفاع عن قضيته.

التاريخ يحضر شاهدًا في عدد من المقالات، حتى قبل أن يغوص الكاتب في نصه، فيفتتح بقصة تاريخية، تكون هنا مقاربة لقصة تجري في سوريا، وهناك استقراء لمستقبل ما، فتاريخ أوروبا الذي يمكن أن تراه في شوارع ألمانيا المليئة بالمهجّرين من بيوتهم بعد الحرب العالمية الثانية، هو ما يمكن رؤيته في طوابير الباصات الخضر السورية التي حملت المهجّرين السوريين إلى خارج مدنهم وقراهم. وإيكارت الشاعر الألماني وضابط إيقاع النازية ومرشد الناس إلى هتلر، له مثيله السوري اليوم وهو “نزيه أبو عفش” وفق نص عنونه عيسى باسم الشاعر “أبو عفش” ملحقًا به صفة “شاعر الحرب”. والهجيج الجماعي من كوبا كاسترو في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وتحول الهروب من البلاد إلى مطلب شعبي جماهيري وحلم قطاعات هائلة من السكان، إنما له نموذجه السوري اليوم.

وتمثال غاندي أيضًا حين أُزيل من جامعة “أكرا” في غانا بسبب جدل حول خطابات مبكرة جاءت على لسان غاندي تضمنت إساءات للسود، هو باب للحديث عن نصب التماثيل في بلداننا لمن العنصرية والتحشيد والتأليب والدعوة إلى القتل والتهجير هي لغتهم اليومية، وليست خطابًا مبكرًا يعتذرون عنه بعد وعي.

كثيرًا ما يكون لشخصيات النصوص مقابلها في السينما أيضًا، فعازف البيانو في اليرموك أليس أكبر تجسيد واقعي للعازف التائه في فيلم “رومان بولانسكي” الذي يجد البيانو وسط الدمار. ولون معطف الطفلة الصغيرة في دوما، حين تخرق به ضباب وسواد الدمار المحيط بها بعد أن تعرض الشارع الذي تقطنه لقصف من قبل طيران النظام، هو تجسيد لصورة “ستيفين سبيلبرغ” حين خرق ألوانه الحيادية الكئيبة في فيلم “قائمة شليندر” بفتاة تلبس معطفًا أحمر، في حي بولوني انتهكته النازية.

جريئة هي مقالات الكتاب، ليست تلك الجرأة الكلاسيكية، بأن تدرج اسم كاتب أو شاعر أو فنان أو شخصية مشهورة، فتشبهها بشخصية مجرم شهير في التاريخ، وليس بعرض الرأي كاملًا واضحًا دون أي تزييف، إنما هي جريئة برؤية الواقع السوري ومآلاته، جريئة بمزاجيتها أيضًا بين حلم وكابوس، لتتفاءل وقتًا فتقول “لا بد لـ(فريزة) غوطة دمشق من اسم ما، فمعرفة اسمها تعني أن البنت قد بلغت النجاة، وهذه أول خطوة في مستقبل الحكاية السورية”، وتتشاءم وقتًا فتقول “ارحل فالأوطان ليست مضيعة وحسب، ارحل إن استطعت إلى ذلك سبيلًا”.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي