إبراهيم العلوش
بشكل مفاجئ تخلى بشار الأسد عن نظرية “المجتمع المنسجم” التي أرست براميله أسسها وتسببت بإخراج نصف السوريين على الأقل من بيوتهم، في نزوح داخلي وفي هجرة خارجية، واستجاب الأسد لإملاءات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، التي ظهرت بشكل علني في الفيديو المتداول قبيل عقد مؤتمر “عودة اللاجئين”، الذي يسجل الطريقة التي يستجيب بها بطل البراميل لإرادة سيده.
الكلام الشاعري في الفيديو عن الوطن والحنين إليه وضرورة إعمار سوريا، يذكّر السوريين بصوت حافظ الأسد الذي كان يتردد في فروع المخابرات، والذي ظل الشبيحة سنين طويلة يضعونه كرنّة تلفون “الوطن عزيز.. الوطن غالٍ”، بالإضافة إلى استعمالها على الحواجز لتسريع عبورها مع المبلغ المعلن عنه من قبل عناصر ميليشيات النظام.
المحاولة الروسية الجديدة لتعويم نظام الأسد عبر عقد مؤتمر “عودة اللاجئين”، جاءت مع خسارة ترامب، وقد تكون هذه محاولة لدفعه إلى اتخاذ موقف متهور جديد، خلال المرحلة الانتقالية، مثل الانسحاب المفاجئ الذي يتيح للروس الهيمنة على بقية البلاد، أو تجعله يخفف العقوبات التي فرضها على النظام ضمن قانون “قيصر” الذي خنق داعمي النظام وحجز أموالهم في لبنان.
وبحجة الحفاظ على الدولة، تبذل روسيا مساعي حثيثة للحفاظ على بشار الأسد كرمز لاستمرار الشرعية المتمثلة بهيكل حكومي خاضع لها ولإيران بشكل شبه كامل، وتحاول أن تجمع له المال من الاتحاد الأوروبي ومن الدول الخليجية ومن المنظمات الدولية من أجل أن يعيد إعمار سوريا بإشراف روسي إيراني بعيدًا عن إرادة السوريين المكبلين بنظام القتل والتدمير. وروسيا لها سوابق في تعويم النظام السوري، وأهمها تعويم نظام الأسد الأب بعد ارتكابه المجازر في حلب وحماة وإدلب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حين تم إجبار السوريين على الصمت عن اختفاء عشرات الألوف من أبنائهم من أجل الحفاظ على الاشتراكية التي كان يدّعيها حافظ الأسد.
إن حرمان الشعب السوري من محاسبة مجرمي الثمانينيات، وعدم فتح نقاش سياسي ومجتمعي، وعدم عقد حوارات تحدد المتسببين بتلك المذابح من كل الأطراف، وعدم محاسبة الضباط الضالعين في التعذيب وفي تدمير المدن، هو الذي أدى إلى هذا الدمار الذي تشارك به اليوم روسيا وإيران بشكل علني، وتطالبان العالم بإعادة السوريين إلى حضن النظام من أجل إعادة محاسبتهم والتحقيق معهم، ولإعادة تأهيلهم كمواطنين “منسجمين” يعيدون أداء الخضوع كما حصل مع جيل الثمانينيات، وحسب رغبة الأجهزة الأمنية بذلك. بالإضافة إلى إجبارهم على إعادة شراء ركام بيوتهم لدعم الشركات الروسية والإيرانية التي ستستثمر في هذا الخراب الكبير الذي صنعته ميليشيات الدولتين وطائراتهما وبراميل الأسد.
لم تستجب الدول التي تستضيف اللاجئين لدعوة بوتين والأسد، ولم ترسل أي دولة مسؤولًا معتبرًا للمشاركة في المؤتمر، بما في ذلك دول مثل الصومال وفنزويلا وقرغيزستان التي شاركت في المؤتمر، بالإضافة إلى أربع دول أخرى لم تستضف أيًا من السوريين عدا لبنان، إذ رفض الاتحاد الأوروبي إعادة اللاجئين إلى معتقلات الأسد، وأعلنت كندا أن الشروط الدنيا لإعادة اللاجئين الطوعية غير متوفرة، ولم تتم دعوة تركيا التي تضم حوالي 3.5 مليون لاجئ من أصل 6.5 مليون لاجئ سوري أخرجتهم الطائرات والبراميل والميليشيات والتنظيمات الإرهابية التي أطلقها النظام من أقبيته.
ولم يستجب السوريون أيضًا لنداء بوتين والأسد في مؤتمرهما الذي تحوّل إلى موضوع سخرية من قبل اللاجئين، وعلّق أحد سكان المخيمات في الشمال ساخرًا: هل نصدق بأن من يقصفنا يريد أن يرجعنا.. هذه مهزلة!
المؤتمر الذي عُقد في 11 و12 من تشرين الثاني الحالي في قصر “الأمويين” وليس في سجن “صيدنايا”، دعت إليه وزارة الدفاع الروسية وليس وزارة الخارجية السورية، ومن روّج له بوتين نفسه في محاولة استعراضية من قبله أمام الرئيس الأمريكي الجديد لعرض خضوع بشار الأسد، في رسالة قد تبدو كمحاولة لتسويق الورقة السورية إذا رغب المشتري الأمريكي أو الأوروبي بالمساومة.
تبادل بوتين والأسد الأقوال والادعاءات فوق الخراب السوري الذي تسببا به، وأمام الملايين الذين تسببا بنزوحهم وبتهجيرهم، وقدّما صورة تذكّر العالم بالتورط الروسي مع نظام بشار الأسد، وتذكّر العالم بالقصف الذي لا يزال مستمرًا من قبلهما، وبالغازات الكيماوية التي لا يزال استخدامها ممكنًا، وتذكّر السوريين بأبنائهم الذين يخضعون للتعذيب في أثناء تبادل المجاملات بين الرئيسين.
ولا حاجة لشرح الوضع في الداخل السوري الذي تحوّل إلى مأساة إنسانية بسبب الجوع والنزوح، وبسبب أعداد الأرامل والأيتام، وبسبب الدمار الشامل للبنى التحتية السورية الذي تسببت به الطائرات الروسية وطائرات النظام، فكل ذلك يجعل من كلام بوتين والأسد مجرد مسرحية مفتعلة لغايات لا إنسانية وتستهدف الاستثمار السياسي بمأساة السوريين.
ولا معادل لصوتي الرئيسين في ذلك الفيديو المشؤوم إلا صوت حافظ الأسد، مؤسس هذا الخراب، “الوطن عزيز.. الوطن غالٍ”.