جريدة عنب بلدي – العدد 38 – الاحد – 11-11-2012
* «بعض أجزاء القصة مقتبسة من صفحة الأستاذ مناع حجازي»
قال لي: «بتعرف يا مناع؟… أنا ربيته لتكون له شخصية مستقلة».. يكلمني وكأن الراحل شخص يعرفه… قال: «منذ أن كان في السادسة من عمره كان يلبس لباس شاب فلسطيني، يحمل بندقيته ويقول لي: سوف أحرر فلسطين… وها هو يرحل شهيدًا كما أحب».
كان شابًا حضاريًا معاصرًا بكل معنى الكلمة.. يحب الدنيا ويحب العلم والفن والأدب مجتهد بمدرسته.. قال: بتعرف… اليوم عيد ميلاده… اليوم صار عمره 16 سنة.
أدهشني الأب وهو يحلل شخصية الشهيد… ابنه.. ويخطر ببالك كيف اجتمعت كل هذه العظمة في هذا الأب كما اجتمعت في العائلة..
الأب ملاحق ويعمل مع الثوار على الأرض، وهو من أشد الدعاة إلى السلمية والمؤمنين بها، ويجادل مبشرًا بها إلى أن سرق النظام براءة صوته.
الأم تلتحق بقافلة الحرية وترحل مع أحرار العالم لتفك الحصار عن غزة.. يعتقلها جيش الاحتلال وترفض الإذعان لطلباتهم وتوقيع أوراقهم، وتصبح أيقونة سوريّة… وهي الآن مع الجرحى والمهجرين.. تداوي وتطعم، وتشد أزر المنكوبين.
الابن التحق منذ ستة أشهر بالجيش الحر بإدلب.. لم تكن لتسمح له لولا منطقه القوي.. فهي أيضا كما زوجها مربيةٌ ومثقفةٌ وشاعرةٌ.. تهزها الكلمة.. فهزتها كلمات ابنها.. فلم تستطع المقاومة..»
هي قصة شاب لأب دمشقي وأم من إدلب، عاشت فلسطين في قلوبهم، كما عاشوا هم في قلب سوريا…
هي قصة من عشرات القصص التي تطالعنا كل يوم، في زمن ظننا فيه أن زمن البطولات وزمن الاحتساب والتوكل على الله قد ولّى إلى غير رجعة.
وقفت أمام هذه العائلة للحظاتٍ، فمرّت في مخيلتي صور لشهداء في ثورتنا العظيمة، شهداء تعددت أصولهم الإجتماعية وثقافاتهم، إلا أن شيئًا جمعَهم هو تلك التربية التي طالما غفلنا عنها، ألا وهي التربية الجهادية التي شُوهت صورتُها وغُيّبت مبادئُها، فاقترنت في أذهان الكثيرين بمفهوم الإرهاب!! حتى بتنا نخشاها في سريرتنا قبل علانيتنا!! هذه الترببية الجهادية التي ربّى عليها الرسول أصحابه، فكانت ثمرتها أن فُتحت لهم مشارق الأرض ومغاربها، ونفضوا عنهم غبار الذل والتبعية والخنوع. تُرى ماالذي يدفع فتى في مقتبل العمر، غير آبه بالموت، ليدافع عن الأهل والعِرض وهو ابن الستة عشر عامًا؟؟ لم يحمل سلاحًا يومًا ولم يختبر حياة معارك وقتال، تراه كأنما وُلِد مقاتلًا خبرَ الحرب وأحوالها.
هكذا تصنع الرجال، وهكذا تكتب أساطير البطولة وعندما يرضع الفتى والفتاة مع حليب أمهاتهم حليب التضحية والتفاني والجهاد، جهاد الحياة وليس جهاد المعارك فحسب، ليؤدوا دورهم الجهادي في السلام والحرب، عندها يُدرِك دوره وغاية وجوده في هذه الحياة كخليفة الله في الأرض، عليه إعمارها وإصلاح ما فسد فيها. فإذا ما أدرك عظيم دوره وجلال مقصده هان عليه دفع الثمن مهما بلغ. عندها سيدرك قيمة ما يعمل وثواب ما يجني، فتغدو الحياة والموت في سبيل الله سيان، فإن عاش عاش كريمًا وإن مات مات عظيمًا.
فمتى يكون «عمر بكيراتي» الشهيد الشاب ابن الستة عشر عامًا هو القاعدةُ والأصل في مجتمعنا وليس الاستثناء؟؟!! ومتى يكون شرع الله وسنة رسوله منهجنا وبوصلتنا في هذه الحياة؟؟
الأب أيمن بكيراتي: رجل خمسيني مصاب باعتلالات قلبية، مما اضطره إلى إجراء عدة عمليات جراحية في القلب، ومع ذلك تراه ينط ويقفز ويركض في كل المظاهرات منذ أول يوم للثورة!!
الأم شذى بركات: إحدى الأخوات من شقائق الرجال، كانت سبّاقة لكسر الحصار عن غزة وشاركت برحلة السفينة مرمرة واُعتقلت من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وعندما بدأت الثورة السورية، لبّت النداء لتساند إخوتها جاعلة من الأقوال أفعالًا.
الشهيد عمر بكيراتي.. ترك اسطنبول حيث أمه وأخوه الأكبر «عروة» تاركًا متاع الدنيا ليلتحق بالجيش الحر في مدينة حماه، ليرقى إلى جنات الخلد شهيدًا باذن الله ولمّا يكمِل عامه السادس عشر!! مات في سبيل الحرية لأهله وشعبه في سوريا بعد أن كان هتافه وحلمه طوال حياته «جايينك يافلسطين.. جايينك ياقدس… والله العظيم جايين!!»