عاشت سوريا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات سلسلة اغتيالات لشخصيات محسوبة على النظام السوري وحزب “البعث” الحاكم في سوريا، وأخرى كانت مقربة من الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وتوثق المواقع التاريخية السورية تلك الاغتيالات، التي كان من ضمنها اغتيال علي العلي الأستاذ في كلية الزراعة بجامعة “حلب”، في 2 من تشرين الثاني لعام 1977، والذي كان رئيس فرع حزب “البعث” في مدينة جبلة بمحافظة اللاذقية شمال غربي سوريا.
واتهمت الحكومة السورية وقتها “عملاء للنظام العراقي” بالوقوف وراء ذلك الاغتيال، الذي جاء في سياق حملة الاغتيالات التي شنها تنظيم “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” في سوريا، والتي كان لها دور في رسم صراع المجموعات الإسلامية القائمة في سوريا مع النظام السوري في تلك الفترة.
ما هي “الطليعة المقاتلة”
تعتبر مذكرات أيمن الشربجي وثيقة مهمة لقراءة تجربة تنظيم “الطليعة المقاتلة”، وهو الذي يعتبر أحد أعضاء التنظيم، قبل أن يكون قائدًا عامًا له حتى مقتله.
ظهرت المذكرات على حلقات على الإنترنت عام 2010، ثم جُمعت في ملفات عديدة بعناوين مختلفة، حتى صدرت عام 2017 في كتاب مطبوع بعنوان محايد هو “على ثرى دمشق“.
ووفقًا لصفحات الكتاب، قرر مروان حديد وهو شخصية دينية سورية من مدينة حماة، في عام 1970، تأسيس تنظيم جهادي مسلح مستقل تمامًا عن “الإخوان المسلمون”، وعن المجموعات الإسلامية في سوريا تحت اسم “الطليعة المقاتلة لجند الله”، وكانت النشرات الداخلية للتنظيم تصدر تحت هذا الاسم حتى عام 1979، حين قرر قائد التنظيم وقتها، عبد الستار الزعيم، تغيير الاسم إلى “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”، لاعتبارات عدة.
وكان من أهم تلك الاعتبارات، وفقًا لمذكرات الكتاب، هو تثبيت الخلفية الفكرية للقائمين على العمل الجهادي في سوريا، ولا يُقصد أي ارتباط تنظيمي مع “الإخوان المسلمون”، لأنه في الأساس لم يكن “الإخوان” حينها تنظيمًا واحدًا، بل كانوا تنظيمين منفصلين، منذ انشقاق عام 1969، الذي أسفر عن تنظيم في دمشق وآخر في حلب.
واستمر تنظيم “الطليعة المقاتلة” منذ 1970 حتى خروج آخر مجموعة من دمشق في نهاية عام 1997 في ظل ظروف أمنية.
وقال ضابط المخابرات السوري وعضو مجلس الأمن القومي هشام بختيار لأحد المعتقلين عقب خروج المجموعة الأخيرة من التنظيم من دمشق، بعد أن سب وشتم: “الآن ارتحنا وارتاحوا”، وفقًا للكتاب.
وخلال هذه الفترة، انتقل التنظيم عام 1975 من الوضع العام غير المنضبط إلى وضع التنظيم والانضباط، الذي جرى إبرازه في 1976 بتسلم عبد الستار الزعيم زمام القيادة، والبدء بترتيب الخطط الفعلية للمواجهة مع النظام السوري بعد اعتقال مروان حديد في العام نفسه من المخابرات الجوية السورية.
صعود “الطليعة المقاتلة”
قاد مروان حديد تمردًا مسلحًا ضد حزب “البعث” في مدينته حماة، فيما عُرف بـ”أحداث جامع السلطان”، عام 1964.
وبعد نجاته من حكم بالإعدام، بسبب ذلك التمرد النابع من فكره الجهادي، وفقًا لدراسة لمركز “مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط”، قرر مروان حديد تحريض شباب جماعة “الإخوان المسلمون” في سوريا على الجهاد، وعمل على تدريب من اقتنع منهم في مخيمات الفدائيين الفلسطينيين، مشكلًا كتلة غير واضحة الحدود كان أعضاء التنظيم العام يطلقون عليها اسم “جماعة الشيخ مروان”.
درس مروان حديد في مدارس حماة، وحصل على الثانوية العامة في الفرع العلمي عام 1955، وتخرج من كلية الزراعة في جامعة “عين شمس” بمصر عام 1964، ثم التحق بكلية الآداب في جامعة “دمشق” قسم الفلسفة وحصل على البكالوريوس عام 1970.
وكان هدف تلك الجماعة الأول، وفق الدراسة، “إسقاط حزب البعث الملحد بالقوة”، لذلك عمل مروان حديد طوال سنوات الستينيات وأوائل السبعينيات على نمو “شبكة وطنية من المتشددين” الذين كانوا يرغبون في دفع جماعة “الإخوان” إلى خوض مواجهة مفتوحة مع النظام.
وعندما قُبض على مروان حديد وتوفي في سجن “المزة العسكري” في حزيران 1976، تعهدت الخلايا التي تمكن من تدريبها وتوزيعها في جميع أنحاء سوريا، بالانتقام لمقتله.
اقرأ: الإخوان المسلمون.. من التأسيس حتى مجزرة المدفعية
الانتقام بسلسلة اغتيالات
وكان الانتقام على شكل حملة اغتيالات بدأت ضد العديد من كبار ضباط الأمن والسياسيين في النظام. وسرعان ما تحولت خطط عمليات القتل المستهدف إلى “سلسلة من الهجمات الجهادية العشوائية ضد العلويين”، وفي حزيران 1979، تمكنت وحدة “كوماندوز” من التوغل في مدرسة “المدفعية” بحلب، وفصلت بالقوة التلاميذ الضباط السنة والعلويين، ثم ذبحت عشرات من العلويين.
تسببت تلك الممارسات في حدوث موجة من القمع من قبل النظام السوري كانت تهدف ليس فقط إلى تدمير تنظيم “الطليعة المقاتلة”، بل إلى إضعاف جماعة “الإخوان المسلمون” التي قويت شوكتها بتشجيع من انتشار الاحتجاجات المناهضة للنظام طوال أواخر السبعينيات وفق دراسة المركز.
وقد دفع حجم الفظائع التي ارتكبتها الدولة، مثل حملة آذار 1980 ضد المعارضين في حلب، أو مجزرة سجن “تدمر” في حزيران 1980، التي قتل فيها النظام، الذي شعر بالغضب الشديد من محاولة اغتيال حافظ الأسد، حوالي ألف من السجناء، بالتزامن مع إقرار القانون رقم “49” للعام 1980 الصادر في تموز، وجعل الإعدام عقوبة عضوية الحركة الإسلامية، ما دفع جماعة “الإخوان” في نهاية المطاف إلى الاقتراب أكثر من فرعها المتشدد.
بعد أن أنشأت جماعة “الإخوان” فرعها العسكري، جرى الاتفاق في اجتماع لقيادتها عُقد في كانون الأول 1980 على أن تدخل الحركة في شراكة مع قوات تنظيم “الطليعة المقاتلة”.
وقد وفرت هذه العلاقة التي استمرت لمدة سنتين بين القوتين الإسلاميتين ذريعة للرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، لأن يصنف الحركة الإسلامية كلها بأنها “إرهابية”، ويستخدم السلطة والقوة على نطاق غير مسبوق.
وأسفرت المواجهة التي تلت ذلك في حماة في شباط 1982 عن مقتل ما بين 20 و40 ألفًا من سكان المدينة، ووضع حد فعلي لأي تحدٍّ لنظام الحكم حتى آذار 2011.
–