شهدت مدينة طرابلس الشام في لبنان توترًا عسكريًا بين قوات الجيش السوري وقوات حركة “فتح” بقيادة ياسر عرفات في عام 1983، وأدى ذلك التوتر إلى اقتتال مسلح بين الطرفين داخل المدينة، وكان إعلان بداية علاقة مريرة بين الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، وعرفات الذي خرج منها متجهًا إلى اليونان.
سبقت تلك التوترات العسكرية خلافات سياسية بين الجانبين، برزت ملامحها قبل عامين من ذلك الاقتتال، حين فشلت قمة “فاس الأولى” التي عُقدت في المغرب نهاية عام 1981 بين الدول العربية، إذ لم تكن سوريا موافقة على عقدها لأن ظروف انعقادها كانت ملتبسة بوجود مبادرة الأمير السعودي حينها، فهد بن عبد العزيز آل سعود، لحل أزمة الشرق الأوسط، خاصة الحرب الأهلية اللبنانية.
وكان سبب فشل القمة وجود عدة مبادرات أخرى لم يكن معلنًا عنها بين رئيس “منظمة التحرير الفلسطينية” الأسبق، ياسر عرفات، وبين الدبلوماسي السياسي فيليب حبيب، وهو ما رفضته سوريا.
دفع ذلك ملك الأردن، الحسن الثاني، الذي كان يترأس القمة، إلى تأجيلها إلى موعد قريب، كان في أيلول عام 1982، ضمن قمة “فاس الثانية” بعد الغزو الإسرائيلي للبنان.
حضر قمة “فاس الثانية” جميع الملوك والرؤساء العرب، وأقروا خلالها مبادرة الأمير فهد الذي صار ملكًا وقتها، بعد إدخال صيغ جديدة لم تغير شيئًا في جوهر المبادرة التي نصت على انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 بما فيها القدس العربية، وإزالة المستعمرات التي أقامتها إسرائيل في الأراضي العربية بعد عام 1967، وضمان حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان في الأماكن المقدسة، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وممارسة حقوقه الوطنية الشرعية بقيادة “منظمة التحرير الفلسطينية”.
ولم يكن الملف اللبناني حاضرًا بقوة في مخرجات قمة “فاس الثانية” التي لم تجد حلًا حقيقيًا للأزمة في لبنان، إذ لا علاقة لنجاح القمم العربية أو فشلها بالقرارات الصادرة عنها، وإنما تكتسب قيمتها من مدى التزام الدول العربية بتنفيذها.
وجاء انعقاد قمة “فاس الثانية” بعد الغزو الإسرائيلي للبنان وإبعاد عرفات و”منظمة التحرير الفلسطينية” خارج لبنان، ومواجهة قوات الجيش السوري للغزو الإسرائيلي عند طريق بيروت- دمشق الدولي، أي إن قمة “فاس الثانية” جاءت بعد أن تعرض الجانب الفلسطيني واللبناني والسوري لضغوط أمريكية- إسرائيلية، وهذه الضغوط أدت مباشرة إلى بدء مفاوضات بين إسرائيل ولبنان برعاية أمريكية انتهت بتوقيع اتفاق 17 من أيار 1983.
وبعد انتهاء قمة “فاس الثانية” غادر الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، بصحبة عدد من قياديي الثورة الفلسطينية المعترضين على النهج السياسي لياسر عرفات، وكان برفقته العقيد “أبو موسى” و”أبو خالد العملة”، وكان الأسد مهتمًا بخلق علاقات سياسية معهم كي يكونوا في صفه السياسي والعسكري ضد عرفات.
وبعد تفجير مقر “المارينز” في تشرين الأول عام 1983 في لبنان، الذي قُتل خلاله عشرات الأمريكيين، امتثل الرئيس الأمريكي حينها، رونالد ريغان، ووزير خارجيته، جورج شولتز، إلى الوجود السوري في لبنان، بحسب كتاب “الرواية المفقودة” لفاروق الشرع، وزير الخارجية ونائب الرئيس السوري السابق، الصادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” ضمن سلسلة “مذكرات وشهادات”.
وفي نفس العام، كانت وتيرة الانشقاق الداخلي في حركة “فتح” مرتفعة، على خلفية الأداء العسكري والسياسي للقيادة الفلسطينية خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، ووصل الوضع الداخلي المشحون إلى ذروته في أيار 1983، حين أعلن عرفات أن الأمر ما عاد مجرد صراعات داخلية بضغوط سورية، وإنما انشقاق بعض أعضاء اللجنة المركزية للحركة الذين كانوا مدعومين من القادة في ميدان النزاع في الساحة اللبنانية، ومن هنا استمد الانشقاق زخمه الحقيقي على الأراضي اللبنانية، وفق ما جاء في مذكرات الشرع.
خلاف الأسد وعرفات يطفو على سطح الانشقاقات
فصلت اللجنة المركزية لحركة “فتح” بقيادة عرفات بعد ذلك المنشقين، واتهمتهم بالعمل على نقل القرار الفلسطيني إلى جهة غير فلسطينية، في إشارة إلى سوريا، فغضب الأسد الذي فقد الثقة بعرفات من تحميل سوريا مسؤولية الانشقاق في حركة “فتح”، ووافق في 24 من حزيران 1983 على إبعاد عرفات عن سوريا، بنصيحة من نائبه عبد الحليم خدام، ورئيس هيئة أركان الجيش السوري، حكمت الشهابي.
“تم إبعاد عرفات بشكل مهين من سوريا، ورافقه ضابط إلى طائرة كانت تنتظره لتقله إلى تونس، كنت أتابع ذلك بعدم ارتياح، لأن هذا التصرف لا يخدم المصالح الوطنية لسوريا ولا موقفها من القضية الفلسطينية. ادعى خدام والشهابي أن عرفات عقد مؤتمرًا هاجم فيه بشدة الرئيس حافظ الأسد ونال من مكانته ودوره في الأزمة اللبنانية (…) كان قرار إبعاد عرفات حدثًا مدويًا، وبالنسبة إلي كان قرارًا غير مبرر، وحاولت طوال الفترة السياسية اللاحقة التخفيف من آثاره السلبية على الرغم من انتقادات القيادة السورية للقاءاتي مع عرفات في تونس”، وفق ما قاله فاروق الشرع في مذكراته.
هجوم 2 من تشرين الثاني عام 1983
كانت وتيرة الانشقاق والفرز في الساحة الفلسطينية على أشدها، وكان أخطرها هو ما حدث في معسكر قوات “اليرموك” في سهل البقاع بين معارضي عرفات ومؤيديه داخل حركة “فتح”، حينها عاد عرفات مع بعض رفاقه بشكل سري إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة طرابلس شمالي لبنان، وفق مذكرات الشرع، وظل فيها حتى 20 من كانون الأول 1983، وكانت عودته بهدف السيطرة على الوضع ووقف حركة الانشقاق، لكنها حملت أبعادًا عسكرية أخرى بالنسبة لسوريا.
وكان التوتر بين الأسد وعرفات سببًا لتطور التدخل المسلح من الجانب السوري في لبنان، وتحريض عرفات لمجموعات “التوحيد الإسلامي” بقيادة الشيخ سعيد شعبان ضد القوى والتنظيمات الموالية للنهج السياسي للأسد.
وفي 2 من تشرين الثاني عام 1983، شنت القوات السورية هجومًا واسعًا على مدينة طرابلس الشام، مستهدفة عناصر حركة “فتح”، بالتحالف مع المنظمات الفلسطينية الموالية للأسد، مثل منظمة “الصاعقة” و”فتح الانتفاضة” بقيادة أحمد أبو موسى.
كان الهدف من ذلك الهجوم عزل عرفات عن شرعية قيادة “منظمة التحرير الفلسطينية”، وطوال 20 يومًا حاصرت القوات السورية والمنشقين عن الحركة مدينة طرابلس حتى أجبر الهجوم القوات الموالية لعرفات على الانسحاب من مخيم “نهر البارد”، في 6 من تشرين الثاني، لكنه فشل وقتها في طردها من مخيم “البداوي”.
وفي 9 من تشرين الثاني، توقف القتال بطلب من الدول العربية، ولكنه تجدد بعد أسبوع فقط، وفي 18 من تشرين الثاني، أجبرت قوات حركة “فتح” عرفات على الانسحاب من مخيم “البداوي”، وأعلن وقف إطلاق النار في 24 من تشرين الثاني بعد وساطة عربية- دولية.
واضطر بعدها عرفات ورجاله إلى الانسحاب من طرابلس على متن السفينة “أوديسيوس إيليتيوس” مغادرًا إلى اليونان في أواخر 1983.
–