“أنا بموت في شام، ما في أحله من أيامات الشام”، بكتابة عربية مكسّرة عبّر نسيم، وهو أمريكي يهودي سوري الأصل يعيش بمدينة بروكلين في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال محادثة نصية مع عنب بلدي، عن حبه لمدينة دمشق وعدم نسيانه لها بعد هجرته عنها قبل 28 عامًا.
سكن نسيم زليطة “حارة اليهود” في العاصمة السورية دمشق، قبل أن يتركها بعمر 20 عامًا مهاجرًا إلى الولايات المتحدة، بحسب ما قاله، وذلك بعد إلغاء الحظر على مغادرة اليهود لسوريا عام 1992، عقب مؤتمر “مدريد للسلام”.
زار نسيم حيه منذ قرابة عشر سنوات، وينوي زيارته قريبًا، خاصة أن منزل عائلته لا يزال موجودًا في الحي مع محلين تجاريين.
ويوجد أكبر تجمع لليهود السوريين في بروكلين مع تجمعات في مناطق أخرى من الولايات المتحدة الأمريكية، والأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعد هجراتهم المتوالية من سوريا لم يبقَ فيها منهم غير 60 إلى 70 يهوديًا فقط، يقيمون في دمشق وقرابة ستة آخرين في مدينة حلب، حتى عام 2014، وفقًا لصحيفة “The Wall Street Journal”.
كنس مغلقة
يبلغ عدد الدمشقيين اليهود المقيمين حاليًا في “حارة اليهود” 12 شخصًا، نصفهم رجال والنصف الآخر من النساء، وجميعهم كبار بالسن وغير متزوجين، تتجاوز أعمارهم 70 عامًا، بحسب بيخور شامنتوب، وهو دمشقي يهودي من سكان الحارة.
لم يهاجر بيخور خارج سوريا وفضّل العيش في دمشق، على الرغم من سفره عدة مرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية للقاء عائلته المقيمة هناك، لأنه ليس متزوجًا ويحب البلد، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
“تعودتُ على الشام، والحياة في سوريا بسيطة وليست معقدة على الرغم من كل شيء”، أضاف بيخور، مؤكدًا أن كُنس اليهود (جمع كنيس) الموجودة في الحارة مغلقة بسبب عدم وجود عدد كافٍ من المصلين لإقامة الصلاة فيها.
لا سكان أصليين
خلت “حارة اليهود” بدمشق من سكانها الأصليين، بعد هجرتهم في أوائل التسعينيات، وتسكنها اليوم أقلية دمشقية يهودية لا تتعدى أفرادًا، وبعض العائلات الفلسطينية وبعض من سكان دمشق وإيرانيون قدموا إلى دمشق.
وكان الاعتراف بوجود كيان لليهود في المجتمع السوري بدأ عام 1932، وتوزع الكيان على ثلاث مدن، هي دمشق وحلب والقامشلي.
ويهود دمشق، كسائر يهود سوريا، شرقيون سكنوا بحي من أحياء دمشق القديمة، يسمى “حي اليهود” أو “حارة اليهود”، لا يختلف عن بقية أحياء دمشق التي تحمل مزايا التصميم الدمشقي، لكن منازل اليهود فيه تميزت بعبارات خُطت باللغة العبرية فوق أبوابها.
ويوجد في وسط الحي عدد من الكنس المتميرة ببنائها وطرازها العبري القديم، حيث يمارس فيها اليهود طقوسهم الدينية، بحسب ما ورد في بحث “المؤتمر الدولي الثاني لمركز البحوث والاستشارات الاجتماعية (لندن)”.
وكان اليهود في مدينة دمشق ينقسمون إلى فئتين متعاديتين مختلفتين، هما طائفة اليهود القرّائين وطائفة اليهود الربانيين، ولكل منها كنيسه الخاص ومقبرته الخاصة.
وكانت مقبرة القرّائين في منطقة باب شرقي، في الجهة الشرقية لمدينة دمشق، وانقرضت اليوم، بينما تقع مقبرة الربانيين إلى الجنوب منها على طريق المطار، بحسب ما نقله موقع “التاريخ السوري المعاصر” عن الباحث عماد الأرمشي.
أعمال اليهود
عمل اليهود في سوريا بأعمال مختلفة، خاصة في التجارة والمال والصرافة والربا، وكانوا ذوي قوة مالية، بسبب تقرب الأوروبيين المقيمين في دمشق وما جاورها منهم، وتعاونهم معهم واعتمادهم عليهم في كثير من العمليات التجارية والمصرفية، بحسب الأرمشي.
وبلغ عدد اليهود في عام 2004 حوالي خمسة آلاف نسمة، يعيشون بين سوريا والمهجر، وعلى الرغم من إقامتهم في “حارة اليهود”، فإنهم لم يكونوا معزولين عن المجتمع الدمشقي، وكانوا مندمجين مع السكان، وساد التفاهم بينهم وبين جميع مكونات المجتمع، بحسب ما أورده أكرم حسن العلبي في كتابه “يهود الشام في العصر العثماني”.
بينما بلغ عددهم في سوريا 100 ألف يهودي في عام 1909، وكان لهم في حارتهم التي سكنوها بدمشق 12 مكتبًا (مدرسة) يدرس فيها 350 تلميذًا يتعلمون أمور دينهم باللغة العبرية، وبلغ عدد معابدهم في المدينة عشرة، أشهرها كنيس “سوق الجمعة”، بحسب ما أورده عبد العزيز محمد عوض في كتابه “الإدارة العثمانية في ولاية سوريا 1864- 1914”.
وعلى الرغم من أن عددهم لم يكن كبيرًا، لعب اليهود دورًا مؤثرًا في الأمور المالية عن طريق العائلات الغنية التي عمل أفرادها لسنوات عديدة كمصرفيين لباشوات دمشق المتعاقبين، إذ مارسوا أعمال الصيرفة على أوسع نطاق، وكان أثرياؤهم يشترون السندات المالية من حامليها بثمن بخس، ويحتفظون بها من أجل استغلالها في الظروف المناسبة.
واقتصر نشاطهم على الأعمال الكتابية والحسابية والصيرفة والتعهدات في دوائر المال في بلاد الشام، ولم يصل أحد منهم إلى مركز رسمي كبير، كما كانت كميات النقد الكبيرة نسبيًا التي كانت بحوزتهم، في وقت كان فيه النقد السائل قليلًا، مصدر قوة لهم، إلى جانب تكتلهم واعتمادهم على جماعتهم.
وامتاز يهود دمشق بانفرادهم في صناعات معينة، أهمها الأكياس، وصناعة الكبريت، وبرعوا في النقش على الأواني النحاسية، وجنوا من ورائها أرباحًا كثيرة، كما اشتهروا كمرابين “جشعين”، يقرضون المال للمحتاجين ثم يستوفونه منهم أضعافًا مضاعفة.
وقدّر “المكتب المركزي للإحصاء” عدد السكان الموجودين على الأراضي السورية بـ24 مليونًا و422 ألف نسمة حتى منتصف 2017، وقّدر عدد السكان وفق المسار الطبيعي بمعدل النمو العام الذي يبلغ 2.45%.
وكانت عنب بلدي أجرت تحليلًا لبيانات توفرها منظمة “الفاو” الأممية (منظمة الأغذية والزراعة)، لعدد السوريين خلال عشرة أعوام، وأظهر التحليل تراجعًا في عدد السكان بما يساوي 1,362,938 فردًا منذ عام 2007 حتى كانون الثاني 2019.
ويعيش في سوريا خليط من الطوائف والأعراق، إذ توجد سبعة أعراق مختلفة هي القبائل والعشائر العربية والكرد والشركس والتركمان والداغستان والشيشان والأرمن، إلى جانب مزيج من الأديان والطوائف الدينية التابعة لها، أبرزها الإسلام، أكثر الأديان انتشارًا بين السوريين.
وتنتشر الطوائف الإسلامية في مختلف المحافظات السورية، وأكبرها الطائفة السنية، إلى جانب الدرزية التي تتمركز أغلبية أتباعها في محافظة السويداء جنوبي سوريا، والعلوية التي تشكل أغلبية في جبال اللاذقية وطرطوس وريفي حماة وحمص الغربي، كما تنتشر طوائف أخرى في محافظات مختلفة منها المرشدية والإسماعيلية والشيعة الاثني عشرية واليزيدية.