لمى قنوت
منذ الثمانينيات وحتى يومنا هذا، أُطلقَ على الكثير من المجازر التي ارتكبها النظام السوري أسماء المدن والقرى التي اُرتكبت فيها، أو سُميت باسم أحد معالمها، مثل مجزرة الساعة في حمص، أما خطاب الكراهية الرسمي الذي قسم السوريين والسوريات بين موالٍ ومعارض، وزرع في طياته ثنائية الوطني والعميل، فقد تمت مواءمته مع شيطنة المدن التي ثارت مجتمعاتها ضد النظام، فأعلن الحرب عليها، وعوقبت بالعزل والحصار والسحق وطمس معالمها وتشريد سكانها، و”تعفيش” ممتلكاتهم، وعانت أغلبية نسائها من جرائم وانتهاكات عند مرورهن أمام الحواجز، تلك الحواجز التي قسمت القرى والمدن أو أجزاء منها وعزلتها، فانسجمت بذلك مع الخطاب والسياسة الرسمية وأنجزت عسكرة الحيز العام، وتجلت الوصفة السحرية لتذرير المجتمعات، وصناعة العداوات فيما بينها بقصف مدينة من سلاح مدفعي وضع في مدينة مجاورة لها.
ثم، وبسلاسة يفرض “المنتصر” تغيير هوية الأمكنة وينزع حكاياتها ويطمس ذكرياتها، كما يُخشى أن يحدث على سبيل المثال في مخيم “اليرموك”، أو ما يطلق عليه بـ”عاصمة الشتات الفلسطيني”، فيسقط المخطط التنظيمي جزءًا من هويته وصفته كمخيم، ويكون مقدمة لنزع أسماء أسواقه مثل سوقي شارع “لوبية” و”صفد”، فمخيم “اليرموك” الذي يحمل بين جنباته رمزية حق العودة إلى فلسطين، ما زال أغلبية لاجئيه الفلسطينيين، ومن سكن فيه من السوريين، ممنوعين من العودة إليه، ويرزحون تحت وطأة الإيجارات المكلفة بدمشق، في انتظار أن تسمح لهم الدولة الأمنية بالعودة ولو على أطلاله، ريثما يتم إعادة إعماره.
المدينة كفضاء سياسي
غالبًا، عندما تنتزع السلطات المتوحشة السياسة من فضاء المدن، وتستبدل بها فضاء الخوف والرقابة، يجنح الأفراد والمجتمعات إلى الاعتماد على العصبيات، فيسكنون بجوار بعضهم، على أساس الدين و/ أو الطائفة أو القومية، ويستمدون الحماية من تلك العصبيات ويستقوون بها، والأسوأ أن تنسل هذه العصبيات خلال تشكيل ودورة حياة الكيانات السياسية، وبعض منظمات المجتمع المدني التي تصدرت المشهد، مع إضافة عصبية مناطقية كما يحصل اليوم في سوريا، وعادة بعد النزاعات تشتد العصبيات أكثر عندما يصبح أمراء الحرب أمراء سلام، مثل لبنان بعد الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا.
كيف يسهم إعمار المدن والضواحي في بناء دولة المواطنة
لا شك أن التدمير الواسع النطاق الذي طال المدن والمناطق التي ثارت على النظام، والفجوة التنموية بينها وبين المدن الأخرى في كل المجالات، خلّفت ندوبًا جسيمة لدى من تحولوا إلى نازحين ولاجئين من النساء والرجال بعد استهدافهم بكل صنوف الأسلحة، فمثلًا ازدادت المؤشرات التنموية تباينًا بين المحافظات، الموجودة أصلًا قبل عام 2011، وبلغ هذا التفاوت أوجَه على صعيد شمولية التعليم الأساسي، الذي سجلت عدة محافظات نسبًا منخفضة في مؤشره، منها حلب 33%، وريف دمشق 58%، ودير الزور 63%، ودرعا 64%، بينما سجلت طرطوس والسويداء ارتفاعًا وصل إلى 100%، وكذلك الأمر في محافظة اللاذقية 99%، وهو انعكاس لحجم العنف والدمار الذي لحق بالمحافظات التي سجلت نسبًا منخفضة، الأمر الذي سيشكل تحديًا للتنمية المستدامة مستقبلًا، ويتطلب برامج مبتكرة تعالج تلك الفروقات على مختلف الأصعدة، أحدها التزام برامج إعادة إعمار المدن والضواحي بالإسهام في تحقيق العدالة الاجتماعية، ولجم المضاربات العقارية، وأمولة السكن، وحماية الحق في المدينة لجميع المواطنين والمواطنات، وحق الفقراء ومحدودي الدخل في العيش بفراغات معمارية جميلة صديقة للبيئة، ولذوي الإعاقة في الحياة السياسية والعامة، مدنٌ يشارك المواطنون في إدارة بلدياتها، وصناعة القرار فيها بشكل متساوٍ، تحلل آليات العنف المتعدد الأوجه ضد النساء، وتتيح منصات للإبلاغ عنه (خطوط ساخنة) في المدن والنواحي، وتؤمّن إنارة جيدة بالشوارع وخاصة الفرعية منها، وتوفر خدمات النقل للمناطق النائية، وتخطط الشوارع والجسور والأرصفة والنقل العام بما يناسب جميع احتياجات المواطنين من جميع الشرائح العمرية على اختلافها، وتخطط أيضًا لوجود مرافق ثقافية ورياضية وترفيهية، وفضاءات مفتوحة لمختلف الأنشطة، كإقامة المعارض والعروض الفنية.
إن للتخطيط العمراني للمدن دورًا مهمًا في التأسيس لدولة المواطنة، فالعمارة ليست فلسفة وهندسة وفنًا ورمزًا ووظيفة فقط، بل هي فهم سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي للتاريخ والحاضر، تسهم في ترجمة قيم ومبادئ المواطنة، وتحول الفراغ المعماري إلى فراغ معرفي، وفضاء مفتوح يؤمّن فرصًا متساوية وعادلة لجميع أفراده.
–