نبيل محمد
ليس تمامًا كما يتوقعه كثيرون بأن أبناء الجولان المحتل يعيشون مندمجين ضمن مجتمع يوفّر ما لا توفره أغلبية الدول العربية، من حريات وحياة هانئة، إنهم يعيشون حصارًا ذا طابع مختلف، هو حصار بين سياجين، الأول فيزيائي يفصلهم عن وطنهم الأم، الذي لا يعرف عنه الجيل الجديد من أبناء المنطقة سوى ذكريات أهاليهم، وما توفره شكبة الإنترنت من صور وفيديوهات، والسياج الثاني هو ذاك الافتراضي الذي يفصلهم عن الانتماء لإسرائيل، وعدم قدرتهم على الاندماج ضمنها، ما يجعل هوياتهم مرتبكة، غير محددة المعالم، إلا في أذهانهم أو في أحلامهم ربما، هذا ما يقوله فيلم “حصار” للمخرج وسيم الصفدي، الفيلم الذي حاز مؤخرًا على تنويه خاص عن فئة الأفلام الوثائقية الطويلة في مهرجان “غوتنبرغ” للفيلم العربي في السويد.
تلاحقهم أخبار سوريا يوميًا، يقف الأطفال والرجال والنساء بالقرب من الحواجز التي تفصلهم عن بلدهم الأم، ليروا القذائف تسقط فوق المناطق السكنية، ويشاهدوا الدخان، فتأتي رائحة الحريق كاملة من بلادهم، يدخل دخانها إلى قراهم وربما إلى منازلهم، فالمسافة قريبة جدًا، يخرج بعضهم حاملًا علم الثورة السورية، فيشتبك مع من يرفض الثورة ويحمل علم النظام السوري، في صورة يحاول المخرج فيها تقديم المجتمع المحلي في الجولان على أنه مجتمع سوري خالص، وهو ما يبدو واضحًا، ولعلّ تناقضاته أوضح، حيث إمكانية ظهور هذا التناقض للعلن واردة بسهولة هناك. وبالطبع لا يخفي المشهد أن هناك خصوصية ما هنا، فهؤلاء الذين يعلنون مواقفهم في وجوه بعضهم، لا يبدو لأحدهم أفضلية على آخر بسلطة السلاح. ببساطة هم يتظاهرون في مكان لا يوجد فيه النظام السوري.
يسرد الصوت المرافق للمشاهد، وأحد سكان المنطقة الذين يعيشون هذا الحصار الذي يمثّل رسالة الفيلم، حكاية أهل الجولان اليوم، حكاية من يرون بلادهم تحترق قبل أن يراها جيل كامل ممن ولدوا وعاشوا في ظل إسرائيل، ولا يبتعد الموقف الحاسم للفيلم عما يجري في سوريا، الموقف المطلوب كي لا يُرى الفيلم في خانة أفلام وتقارير المقاومة التقليدية، إذ يشير بوضوح إلى كذب النظام السوري فيما يخص مقاومة إسرائيل، وكذب معركة “تشرين” التي لم تأتِ بشيء من النتائج التي صدّرتها الكتب المدرسية للأطفال. يبدو النظام السوري عاريًا أمام آلاف الجولانيين، وتبدو المقاومة شكلًا مختلفًا عن الخطابية المكرورة، تبدو أزمتهم أزمة هوية واضحة، تعايشهم في يومياتهم، تهدد مستقبلهم، تجعل شبانهم يفكرون بالسفر إلى أوروبا، يفكرون بأي مكان بديل لحياتهم في الاغتراب الداخلي، وعدم قدرة كثيرين منهم على التعاطي مع المجتمع الإسرائيلي، وبالتأكيد البديل ليس سوريا، فسوريا تحترق أمام أعينهم، ليس على الشاشات فقط.
يمر التفاح كأنقى صور الفيلم، ويكرر حضوره بين مشهد وآخر، بأشجاره وثماره وجذوره، ومياه “مسعدة” التي تسقيه، بالتضييق على ريه وبيع المياه بسعر مرتفع للسكان من قبل السلطات الإسرائيلية، فلاحون مسنّون يقلّمون الأشجار ويسقونها ويقطفون ثمارها ويبيعونها، لولا هذا التفاح لما قدروا على الحياة هنا، فتكاليف الحياة مرتفعة جدًا. التفاح الذي لا يمكن بيعه اليوم لسوريا، فالحدود مغلقة.
لن يمر الفيلم دون أن تركز ناظريك وتقارن، تلك المقارنة التي باتت مكررة حد الملل، بين جندي إسرائيلي، يمنع المواطنين من العبور من الحاجز، بطريقة لا عنفية، ويطلب إغلاق الكاميرا بطريقة لا عنفية أيضًا، متقبلًا صراخ المرأة التي تريد أن تعبر لتطمئنَّ على أهلها، وبين مشهد أي جندي سوري اعتدت على رؤيته في حياتك العادية أو في وسائل الإعلام، يقف على حاجز وعليه أن يمنع أحدًا من العبور من مكان إلى آخر، مقارنة كانت كلما ذُكِرت اتُّهم من يسوقها بتجميل صورة إسرائيل، وربما تسويغ التطبيع بشكل من الأشكال خاصة في زمن التطبيع، لكن سوق هذه المقارنة الضروري، إنما هو لمزيد من الإيضاح في صورة القاتل، ومعرفة أن القتل درجات، والظلم درجات، والحصار أيضًا درجات. محاصرون هم أهالي الجولان على الأقل كما يُظهرهم الفيلم، لكنّ حصارًا أكبر وأعتى يعيشه السوريون الآخرون الذين لا يعيشون في ظل حكم إسرائيل.