الميثاق الوطني السوري.. بين الصيغة الممكنة والمتخيلة

  • 2020/10/25
  • 10:10 ص

أسامة آغي

يجتهد كثيرون حول الأنموذج السياسي السوري المقبل، هذا الاجتهاد تتحكم فيه عوامل عديدة، منها القاعدة الأيديولوجية ومنها دوافع ذات طابع سياسي/ اقتصادي، ولا يمكن تاليًا إغفال الرغبوية من بعض هذه  الاجتهادات، إذ يُسمح هنا للرغبات بصياغة الأنموذج بعيدًا عن المعرفة العلمية، التي تحدّد بنية الواقع وقدرته على حمل هذا الأنموذج أو ذاك.

ولعل المسودات الثلاث الخاصة بالميثاق الوطني في محافظات دير الزور والرقة والحسكة، الصادرة عن التحالف العربي الديمقراطي، تحاول رسم حدود الفعل التاريخي، لمنع تغيير ديموغرافي في هذه المناطق، تعمل عليه قوى طارئة، تختبئ خلف أيديولوجية قومية، لم يتم اختبار قدرتها على النفاذ إلى الواقع، في ظل ظروف موضوعية لا تسمح بهذا التوجه.

وكذلك مشروع “الإدارة الذاتية”، الذي يحاول حزب “PYD” الترويج له، والعمل على ترسيخه في الواقع بمنطقة الجزيرة والفرات السورية، إنما هو محاولة مقاربة سياسية، ترتكز على رؤية فكرية أيديولوجية، لا يستطيع أصحابها بيان ما إذا كانت الدافعة التاريخية لصيرورة التطور هي من يدفع إليها.

المواثيق الوطنية الثلاثة، التي طرحها التحالف العربي الديمقراطي، أخذت عنوانًا إقليميًا تحدّد بمناطق الجزيرة والفرات، دون لحظ أن ما جاء في هذه المواثيق يشكّل قاعدة عمل وطنية لميثاق سوري شامل، وهذا أمر صحيح، فلا ينبغي لمن يريد أن يرسّخ الوحدة الوطنية بين المناطق السورية، أن يفرض عليها صيغة لا تأخذ بالحسبان خصائص مكونات كل محافظة.

إن قراءة محتوى المواثيق الخاصة بالمحافظات الثلاث (دير الزور، الرقة، الحسكة)، تسمح بالقول إن هذه النقاط هي نقاط لمشروع ميثاق وطني سوري، فالقول إن هذه المحافظة أو تلك جزء لا يتجزأ من سوريا الواحدة، هو قول يصحّ على كل المحافظات السورية الـ14.

وما دام هناك مطالبة باعتراف دستوري بالحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لجميع أطياف الشعب السوري على قاعدة المواطنة، فهذا يردم الهوّة التي صنعها نظام البعث والاستبداد، وبالتالي يردم كل ما ترتب على هذا الصنيع.

إذًا، الاعتراف الدستوري بالحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لجميع أطياف الشعب السوري، هو رسم واقعي لمربع الوطنية الحقيقية، هذا المربع الذي يوفر للجميع حقوقًا متساوية في السياسة والاقتصاد والثقافة، وبالتالي، يوفر للطاقات الوطنية المختلفة مساحة للتعبير عن ذاتها ضمن محدد الوطنية، كما يزيل عنها أي غبن سابق تدعيه.

السوريون يحتاجون في كل محافظة من محافظاتهم إلى تشكيل إطار سياسي وطني جامع لهم، يرتكز على التكوين الديموغرافي، بحيث توجد قواسم مشتركة كبرى فيما بين بنى هذا التكوين، كما توجد مميزات ضمن الرؤية الوطنية، تسهم في التعبير عن الهوية والحقوق الثقافية الخاصة بكل مكوّن.

إن محور الالتزام بشرعة حقوق الانسان، وكذلك الالتزام بالقانون الدولي، وعدم إهمال أن الوطنية السورية ليست في حالة تناقض مع العمق الاستراتيجي العربي، يجعل الحدود بين المكونات هي حدود وحدة، على اعتبار أن القاعدة الرئيسة، التي ترتكز عليها كل الأطياف، هي قاعدة الوطنية السورية.

قاعدة الوطنية السورية، التي يجب أن تتشكّل من مؤتمر وطني سوري شامل، هي قاعدة لا يمكن أن تترسخ في ظل أفكار قومية أو طائفية أو دينية، فالوطنية هي حلقة جامعة، بينما القومية والدينية والطائفية هي حلقة تنازع في هذا المجتمع.

إن تذويب التأطير السياسي غير الوطني لمصلحة التأطير السياسي الوطني، تتطلب بنية تستند إلى مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات الوطنية، وتستند بالضرورة إلى إطار سياسي وقانوني يُقرّ بالتعددية السياسية في دولة ترفض الاستبداد وتعمل على ترسيخ قيم الحريات والديمقراطية، أي دولة مدنية ديمقراطية تعددية سياسيًا.

إن الاتفاق على ميثاق وطني سوري هو ضرورة يجب أن يعمل عليها السوريون دون إبطاء، فمثل هذا الميثاق يقطع الطريق على تنطع بعض القوى، بطرح نفسها كمرجعية سياسية وطنية للسوريين، بينما هي حصيلة ميزان قوى دولي، فُرض على السوريين نتيجة طبيعة الصراع وأدواته، وعدم القدرة على إبقائه صراعًا في المربع الوطني.

مثل هذا الاتفاق لا يمكن أن يحدث في ظل بقاء ارتهان قوى سورية لأجندات أيديولوجية، أو سياسية، لها بعد إقليمي أو دولي، وهذا يفترض ضرورة الاتفاق على اعتبار كل القوى العسكرية غير السورية، التي وُجدت على التراب السوري، بأنها قوى أضرّت بالوطنية السورية، وبالتالي فإن وجودها ألغى عن القرار الوطني صفة السيادة، وهو أمر خطير يستدعي العمل على استعادة السيادة واستقلال القرار.

مثل هذا الاتفاق يوفر الفرصة للمحافظة على العلاقات التاريخية مع دول جوار سوريا، كما يوفر الفرصة لعلاقات ذات طابع استراتيجي مع العمق العربي لسوريا.

إن الوطنية السورية لا تفترض قطيعة أو انعزالًا بين سوريا وعمقها الاستراتيجي العربي، فمثل هذه القطيعة تضرّ بكل مكونات البلاد، ولهذا لا يمكن قبول أو تجاهل أن أغلبية السوريين هم عرب، ولكن من غير المقبول تذويب المكونات الإثنية الصغيرة في إناء قومية المكون الأكبر.

الوطنية السورية تفترض ذات الأمر على البعدين الديني والطائفي، فهذه هويات تخص مكونات ولا يجب فرضها على كل أطياف الشعب السوري.

إن كل المشاريع السياسية التي لا تأخذ بحقائق الواقع هي مشاريع لا يمكن أن يُكتب لها الحياة، بل ربما تلعب دورًا مسيئًا للرابطة الوطنية، التي يحتاج إليها السوريون في أغلبيتهم المطلقة، مثل هذه المشاريع هي التي تحاول قوى كردية فرضها على السوريين، نتيجة الاستقواء بظروف المرحلة التي تمرّ بها سوريا.

هذه المشاريع (الإدارة الذاتية، الفيدرالية) هي مشاريع لا يحتملها الواقع السوري ومحيطه الإقليمي، فقد جرّب حزب الـ”PYD” إنشاء شريط حكم ذاتي في الشمال السوري، وكانت النتيجة هو انحسار نفوذ هذا الحزب، الذي لا يحمل أجندة وطنية سورية حقيقية، نتيجة ارتباطه بحزب غير سوري مصنّف بأنه حزب إرهابي لدى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، ونقصد حزب الـ”PKK”.

بقي أن نقول، إن مربع الوطنية واضح الحدود والمعالم، وقد طُرحت هذه الحدود في مشاريع الميثاق الوطني للمحافظات في الجزيرة والفرات، وهي حدود بحاجة إلى تعميق وتوسع على قاعدة الوطنية السورية، ما يسمح للسوريين بالخطو نحو استعادة قرارهم الوطني، وتشكيل مرجعية وطنية لهذا القرار، بعيدًا عن استحواذات قوى منخرطة بالصراع السوري، تبحث عن مصالحها دون النظر إلى مصالح السوريين في بلادهم.

فهل يذهب السوريون إلى هذا الخيار، أم أنهم سيبقون في خيار اختارته مخيلاتهم السياسية؟

مقالات متعلقة

سوريا

المزيد من سوريا