إدلب – يوسف غريبي
في مدينة إدلب، شتاء عام 2018، كان قصي خطيب جالسًا في منزله مع زوجته وطفله الذي لم يبلغ عامه الأول حين ناداه ابن الجيران محذرًا من اقتراب غارة جوية.
كانت حركة أهالي المنطقة القلقة قد أثارت فضول الشاب العشريني، لكنه لم يدرِ ما الأمر قبل إدراك الجار أنه لا يحمل “قبضة” ولم يعلم بوصول التحذير.
لم تمضِ دقائق حتى وصلت الطائرة الحربية الروسية وألقت حمولتها على الحي السكني في المدينة، حيث حاول قصي مغادرة المبنى تجنبًا للإصابة.
نجا قصي وعائلته من الغارة، التي سببت مقتل 14 شخصًا في الحي نتيجة انهيار مبنى بأكمله على سكانه، وأُصيب بشظايا من زجاج انفجر بفعل صدمة الضربة، ليدرك بعدها أهمية متابعة “المرصد” في أرضه التي لا تعرف الهدوء.
“الموجة 16” مفتوحة على الدوام
اعتاد سكان شمال غربي سوريا على “وشيشها” الدائم، إذ كانت “القبضة اللاسلكية” رفيقة لهم خلال الحملات العسكرية المتتابعة لقوات النظام على أرضهم، ورغم التوتر الذي يصاب به المستمعون إليها فإن “الموجة 16” كانت سبيلهم للنجاة من الموت مرارًا.
“مين معنا من حاس على السريع”، بهذه الكلمات صاح أحد مراصد جبل الزاوية، في 5 من أيار عام 2019.
الاستجابة السريعة للنداء مكنت كوادر مستشفى “نبض الحياة” من إخلائه في الوقت المناسب، قبل أن يصيبه الصاروخ الروسي الذي استهدفه بشكل مباشر، كما وثقت عدسة الناشط الإعلامي سعد زيدان حينها.
لم يساعد تحذير المرصد، الذي تمكن من رصد إحداثيات هدف الطائرات الحربية الروسية عبر موجات الراديو، في إنقاذ الأرواح وحسب، في المستشفى الذي تعرض للقصف والإصابة سابقًا، ولكنه ساعد على توجيه اتهام مباشر من قبل صحيفة “The New York Times” الأمريكية لروسيا باستهداف المستشفيات والمراكز الصحية التي وفرت لها الأمم المتحدة إحداثياتها بغرض تحييدها عن القصف والعمليات العسكرية.
ما عمل المرصد؟
خلال أعوام الحرب ومعاناة المدنيين في سوريا من القصف الذي استهدف تجمعاتهم ومراكزهم الحيوية، نشأت المراصد التي تنصتت عبر أجهزتها على مكالمات المطارات العسكرية، وتمكنت من كشف أهدافها قبل الوصول.
اكتسبت المراصد خبرات من العمليات العسكرية الماضية، حسبما قال “الشيخ أحمد”، الشاب الثلاثيني الذي أدار مرصده منذ عام 2012، من بينها تمييز أنواع الطائرات الحربية والمروحية، والمكان الذي أقلعت منه، وفي بعض الأحيان كشف المكان المستهدف، “نحذر الأهالي في المناطق المستهدفة بعد الرصد والمتابعة عبر أجهزة مخصصة”، قال أحمد.
تتوزع المراصد في نقاط متفرقة من محافظة إدلب، وتتواصل مع بعضها “لزيادة الخبرة وتبادل المعلومات” كما أوضح أحمد لعنب بلدي، مشيرًا إلى وجود أكثر من 50 نقطة للرصد موزعة تتناوب في مراقبة المطارات العسكرية التابعة للنظام وحلفائه.
لا يجد قصي، الشاب القاطن في مدينة إدلب، أن استخدام “القبضات” التي تبث الرصد الدائم للمراصد العسكرية وسيلة تحذير منيعة من الخطأ، مع إمكانية نفاد شحنها.
والحاجة إلى “الدقة” غير المتوفرة في تحذيرات المراصد السريعة على الدوام، دفعت “الدفاع المدني” لإطلاق خدمة “الراصد” في آب من عام 2016.
دقة تدفع ثمنها خدمة التحذير المتوفرة على الإنترنت بتأخير لا يتعدى ثواني، اعتبرها قصي “غالية” بالنسبة للمدنيين المعرضين للخطر.
تحذير يتحرى الدقة
يقدم “الدفاع المدني” خدمة تحذير تتعلق بحركة الطيران الحربي في سوريا قبل وقوع الغارات، تبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي “تويتر” و”تلجرام”، حسبما قال منسق مشروع الإنذار المبكر في “الدفاع المدني السوري”، محمد دياب، لعنب بلدي.
تعتمد الخدمة على مراصد مدنية “موثوقة”، وعلى “التحليل والتنبؤ” للتحذيرات الواردة، وحساب الوقت المقدر لوصول الطيران إلى الأماكن المستهدفة، مع قيام “فريق مختص” بالتحقق من صحة التحذيرات قبل نشرها على مدار الساعة.
ويرى دياب أن مستوى الدقة والتحذير المسبق الذي تقدمه خدمة “الراصد” أكبر من التحذيرات التي تنتقل شفهيًا عن طريق أجهزة الاتصال “القبضة اللاسلكية”، مع توفيرها تحذيرًا بزمن يقدر ما بين سبع إلى عشر دقائق قبل وصول الطائرة الحربية.
تشغل تحذيرات “الراصد” صفارات الإنذار أو أجهزة التحذير الضوئي الموزعة في المنشآت الطبية، وتعمل على زيادة المشتركين بها، وتقيم دورات للتدريب على استخدامها، كان آخرها موجهًا للنساء حصرًا.
وقالت منسقة النقاط النسائية في “الدفاع المدني السوري”، زهرة الدياب، لعنب بلدي، إن فريق “الراصد” خصص جلسات افتراضية للنساء لمساعدتهن على تخطي العقبات التقنية التي يواجهنها في الاشتراك بالخدمة، وجاءت هذه الدورات بعد أن لاحظ الفريق في الفترة الماضية أن نسبة اشتراك النساء أقل بكثير من نسبة اشتراك الرجال، مع عدم تجاوزها 30% وفق تقديراتهم.
140 ألف إنذار مختلف أصدرته خدمة “الدفاع المدني” للمدنيين، ووثقت 851 غارة جوية، ما بين شهري كانون الثاني وأيلول الماضيين، مع تقدير وصول التحذيرات إلى 2.1 مليون شخص في المنطقة، ممن تتوفر لديهم خدمة الإنترنت.
“القبضة” أم الهاتف؟
مصطفى الإبراهيم، الذي يسكن في مدينة البارة، الواقعة في ريف إدلب الجنوبي، ضمن منطقة وقف إطلاق النار المتفق عليها منذ 5 من آذار الماضي، والذي بلغت أعداد الخروقات العسكرية خلاله باستهداف الطيران والقذائف المدفعية والصاروخية أكثر من 3174، وثقها فريق “منسقو استجابة سوريا” حتى 16 من تشرين الأول الحالي، اختار الاعتماد على خدمة المراصد و”القبضات اللاسلكية”.
“راصد الدفاع المدني يحتاج إلى الإنترنت، والإنترنت لا يتوفر في كامل المنطقة التي أتحرك بها”، قال مصطفى في تسجيل صوتي لعنب بلدي.
يعتبر مصطفى أن إمكانية التفاعل مع “العنصر البشري” في المرصد يزيد من أهميته، “يمكن استخدامه كمقسم، تطلب عبره شخصًا على طريق ما أو يطلب لك الإسعاف أو الإطفاء”.
تستخدم المراصد المدنية أجهزة متطورة تتيح لها التنصت البعيد المدى، وأيضًا الإرسال، الذي عدد “الشيخ أحمد” من مزاياه، “تناقل المعلومات، وتأمين سيارات الإسعاف، وتوجيه فرق الدفاع المدني للمناطق المستهدفة” إضافة إلى “تعميم أنباء المفقودين والسرقات”.
وفي حين لا تفارق “القبضات السوداء” الصينية الصنع بيتًا أو سيارة أو دراجة أو شخصًا في أثناء الحملات العسكرية، وأكثر أنواعها انتشارًا “قبضة 777″، التي يبلغ سعرها 20 دولارًا وتستقبل الترددات ما بين 20 إلى 25 كيلومترًا، تبعًا لتضاريس المنطقة ومدى استوائها، يستخدم السكان ترددات خاصة للتواصل فيما بينهم مع عدم توفر الإنترنت بشكل دائم، وانقطاع شبكات الاتصال الخلوية في المنطقة.