“منذ دخول (قوات سوريا الديمقراطية) إلى الطبقة في عام 2017 استولت على منزلي، وحولته إلى مقر عسكري لها، ولم تنجح جميع محاولاتي باستعادته حتى الآن، ولم أتلقَ منهم سوى الوعود، لقد تعبت من شدة ما صبرت”.
بهذه الكلمات يصف نايف (اسم مستعار) ما حل بمنزله الكائن في الطبقة بريف الرقة الغربي، وهو لم يوفّر جهدًا في سبيل نيل حقه باسترجاعه، وحاله هي حال كثير من أهالي المدينة ممن يعيشون خارجها.
يقول نايف، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه الحقيقي لأسباب أمنية، “بسبب إقامتي في السعودية، أرسلتُ وكالة لابن عمي الموجود بالطبقة، وصدقناها من المجلس العسكري التابع لـ(قوات سوريا الديمقراطية)، إلا أنهم لم يعترفوا بها، ورفضوا الخروج من منزلي، وقالوا لابن عمي: حتى وإن جاء صاحب المنزل بنفسه لن نعيده له، لأن موقعه مهم بالنسبة إلينا”.
ويضيف في حديثه لعنب بلدي، “وكلتُ محاميًا لمتابعة الموضوع والعمل عليه، كما استعنتُ بوسطاء، وقد وعدت (قسد) بالخروج من المنزل بغضون ستة أشهر، إلا أن سنوات مضت على هذا الوعد”.
ويتابع، “أعرف الكثير من أصحاب المنازل التي تمت مصادرتها، ومنها منزل أخي الذي يقيم حاليًا في الإمارات العربية المتحدة، وجاري الذي يعمل في الكويت”.
وتعاني عشرات العائلات في مدينتي الطبقة والرقة من فقدان منازلها، إما بسبب الدمار أو الاستيلاء عليها من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بحجج أمنية وأخرى روتينية.
ونظرًا لفقدان بعض العوائل أوراقها الرسمية خلال الحرب، بات من الصعب على أفرادها إثبات ملكيتهم لمنازلهم، فضلًا عن أن “الإدارة الذاتية” لم تعترف بعمليات البيع التي تمت خلال سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، بحجة أنها غير رسمية.
أعلنت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) سيطرتها على كامل مدينة الطبقة، في 10 من أيار 2017، بعد معارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” دامت لأشهر، في حملة أطلقت عليها اسم “غضب الفرات”، وسيطرت بموجبها على مساحات واسعة من محافظة الرقة.
وسلمت “قسد” إدارة المدينة إلى مجلس مدني من أبنائها، لكنها تمسك بمفاصلها أمنيًا وعسكريًا، وتطوقها بمجموعة من الحواجز، كما تطبق عليها أغلب قوانين “الإدارة الذاتية”. |
عمليات الاستيلاء مستمرة
استولت “قسد” على العديد من المنازل في الأحياء الأول والثاني والثالث بمدينة الطبقة، التي كان يمتلكها موظفون عاملون في مشروع “سد الفرات” أو “المؤسسة العامة لاستصلاح الأراضي”، وفق ما أفاد الناشط من مدينة الرقة حسن القصاب.
وأشار في حديثه لعنب بلدي إلى أن الكثير من الموظفين الذين قدموا إلى الطبقة من مدن أخرى مثل حمص وحماة والسلمية والمخرم والسويداء وغيرها، من أجل العمل في المؤسسات الحكومية الموجودة هناك، تم الاستيلاء على منازلهم.
وأوضح أن هؤلاء الملاك غادروا المدينة بعد سيطرة فصائل المعارضة عليها في عام 2013، وخلال فترة سيطرة تنظيم “الدولة” استولى على هذه المنازل وأسكن عائلاته فيها، لكن وبعد خروجه وفرض “قسد” سيطرتها على المنطقة عاد بعض أصحاب المنازل لفترة، ثم خرجوا منها فاستولت على قسم كبير منها.
وأضاف حسن أن العديد من المالكين أرسلوا توكيلات لأشخاص في الطبقة، من جيرانهم أو أصدقائهم، ليقوموا بتأجير هذه المنازل أو بيعها أو الجلوس فيها، ولكن “قسد” رفضت هذه الوثائق، وأجّرت المنازل لمصلحتها، لافتًا إلى أنه وفي أكثر من مرة أعادت “قسد” المنازل لأصحابها، لكنها عادت واستولت عليها بعد خروجهم منها بأسبوع أو عشرة أيام، ويستمر الوضع على هذه الحال.
تقسم الطبقة إلى قسمين، الأول هو قسم “الأحياء” ويضم ثلاثة أحياء قريبة من ضفاف البحيرة الواسعة، التي تعتبر أبرز معالم الطبقة وأكثرها جمالًا، وهي مسطح مائي أنشئ خلف سد “الفرات” عام 1968 على نهر “الفرات”، وقد طال هذا القسم دمار كبير جراء المعارك، وتبدو آثار القصف جلية في الأبنية المدمرة وبقايا الرصاص.
أما القسم الثاني (السوق)، فهو منطقة شعبية مقسمة إلى عدة أحياء، أغلب بنائها من البيوت العربية، فيها أيضًا بناء حديث بطابقين أو ثلاثة، تتناغم مع طابعها الشعبي القريب من أجواء القرية، وبحسب الأهالي فإن هذه المنطقة لم تتضرر كثيرًا وتبدو أقل دمارًا. |
عائدات كبيرة تجنيها من الانتفاع بالعقارات المصادرة
الناشط من الطبقة مهاب ناصر أكد من جانبه مصادرة “قسد” عددًا كبيرًا من المنازل التي غادرها أصحابها، مشيرًا إلى أن عمليات المصادرة طالت أيضًا محلات تجارية وأراضي زراعية لكن بنحو أقل.
وأوضح في حديثه لعنب بلدي أنه وبعد استقرار “قسد” في الطبقة نهاية عام 2017، بدأت بالاستيلاء على أملاك الأشخاص الذين لا يوجدون فيها، تحت مسمى بند “إدارة أملاك الغائب”.
ولفت إلى أن هؤلاء الملاك أغلبهم موظفون حكوميون وليسوا من سكانها الأصليين، بل قدموا من محافظات أخرى، مشبّهًا المدينة بأنها كانت عبارة عن “سوريا مصغرة”، فهي تجمع أشخاصًا من مختلف المناطق والطوائف، إلى جانب وجود عدد ممن يحملون الوثائق الفلسطينية، وقد نزح هؤلاء بسبب الحرب باتجاه المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام، أو لجؤوا إلى أوروبا أو تركيا، كما شملت عمليات المصادرة منازل لأهالٍ من المدينة مسافرين إلى بلدان أخرى.
وبيّن مهاب أن جزءًا من المنازل المصادرة حولته “قسد” إلى مقرات عسكرية، أو سلمته إلى عناصرها، أما أغلبيتها الساحقة فقد قامت بتأجيرها للنازحين الموجودين في المنطقة لمصلحتها، إذ فرضت على المستأجر أن يدفع الأجرة لها وليس لصاحب العقار الأصلي، وهو ما يدر عليها أموالًا طائلة، وفق تعبيره.
ورغم عودة بعض أصحاب العقارات محاولين استرجاع أملاكهم، فإن “قسد” اشترطت إقامة المالك نفسه في منزله، ولم تسمح له بتأجيره، كما أنها وبمجرد خروجه من المدينة أعادت الاستيلاء على أملاكه، وفقًا لمهاب.
المجلس المحلي ينفي
الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي في الطبقة، مظلوم عمر، أكد من جهته عدم وجود أي قرار صادر عن المجلس ينص على مصادرة أملاك الغائب، نافيًا وجود أي عمليات استيلاء أو انتفاع بأملاك الأهالي.
وقال في حديثه لعنب بلدي، إن مكتب “أملاك الشعب والغائب” يقوم بتنظيم عقود إيجار عبر وكالات صادرة من “ديوان العدالة الاجتماعية”، ويمكن توكيل أي مواطن يحمل الجنسية السورية، وهي ليست حكرًا على الأقارب.
وأضاف أن عمليات البيع والشراء لا تتم إلا بعد إثبات صاحب العقار ملكيته في “ديوان العدالة الاجتماعية”، وعندها يحق له البيع بحضوره شخصيًا، أو عبر توكيل شخص من المنطقة.
وفي معرض رده على الاتهامات الموجهة لـ”قسد” باستيلائها على ممتلكات أهالٍ من المدينة ممن اضطروا لمغادرتها بسبب الحرب، أو تأجير هذه الأملاك لحسابها، أشار إلى أن “قسد” هي “قوات عسكرية مهمتها الدفاع عن الشعب، ومكتسبات (الإدارة الذاتية)، وليس لها دخل بالأمور المدنية أو العقارية”.
وبيّن أنها “توجد في نقاطها العسكرية المحددة من قبل المجلس التنفيذي، وليس مصرحًا لها الاستيلاء على منازل المدنيين، أو التصرف بأملاك الشعب والغائب، ولا يمكنها التدخل بأملاكهم دون العودة للمجلس التنفيذي، ويطبق على عناصرها ما يطبق على جميع المدنيين”.
وتابع، “لا توجد عمليات تصرف أو انتفاع من الأملاك، وإن وجدت فهي تكون بالتنسيق مع صاحب العقار أو أحد أقربائه وبرضا المالك”.
ولفت عمر إلى أن مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” تشهد نزوح عدد كبير من السوريين إليها، وأن “الإدارة” تعمل على استقطاب جميع شرائح المجتمع السوري، وتقديم كل التسهيلات لهم بالاستقرار وممارسة الزراعة، بحسب تعبيره.
يعيش في مدينة الطبقة اليوم جزء كبير من سكانها الأصليين الذين نزحوا خلال فترة سيطرة تنظيم “الدولة”، إضافة إلى نازحين من دير الزور ومناطق قريبة أخرى.
وأعادت “الإدارة الذاتية” بعض الخدمات الأساسية إلى المدينة، كما ساعد انتشار المنظمات المدنية وورش الإصلاح والترميم والبناء على إيجاد العديد من فرص العمل في مختلف القطاعات. |
مخالفة صريحة للقانون الدولي والدستور السوري
مدير منظمة “العدالة من أجل الحياة”، الحقوقي جلال الحمد، أكد أن القوانين الدولية المطبقة في حالات النزاع على الحكومة والجهات الفاعلة العسكرية غير الحكومية، والمتمثلة بالقانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، تفرض على كل القوى حماية أملاك المدنيين، إذ ينص “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، في المادة (17) منه على أنه “لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفًا”.
وبيّن في حديثه لعنب بلدي أن “قسد” هي واحدة من القوى العسكرية الفاعلة في سوريا، وبالتالي يطبّق عليها التكليف بحماية أملاك المدنيين وعدم العبث بها.
كما أشار إلى أن الدستور السوري واضح جدًا في مسألة حماية أملاك المواطنين، إذ جاء في المادة (15) من دستور عام 2012، أن “الملكية الخاصة من جماعية وفردية، مصونة وفق الأسس الآتية:
1.المصادرة العامة في الأموال ممنوعة.
2.لا تنزع الملكية الخاصة إلا للمنفعة العامة بمرسوم ومقابل تعويض عادل وفقًا للقانون.
3.لا تفرض المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي مبرم.
4.تجوز المصادرة الخاصة لضرورات الحرب والكوارث العامة بقانون لقاء تعويض عادل.
5.يجب أن يكون التعويض معادلًا للقيمة الحقيقية للملكية”.
وأضاف أن ما تقوم به “قسد” وغيرها من الجهات المسيطرة يعد انتهاكًا للدستور، إذ إن جميع هذه الأطراف تضرب بعرض الحائط كل النصوص الدستورية والقانونية التي تفرض حماية أملاك المدنيين بنصوص واضحة، وهي مثلها مثل العديد من الفصائل العسكرية، تقوم باستغلال الأوضاع الحالية، وظروف المدنيين وخصوصًا النازحين واللاجئين، وتعبث بممتلكاتهم.
واعتبر الحمد أنه رغم إلغاء “قسد” قانون “حماية وإدارة أملاك الغائب”، الذي أصدرته في آب الماضي، يبدو على أرض الواقع أنها تقوم بتطبيقه من خلال الاستيلاء على أملاك المدنيين واستثمارها بتأجيرها والحصول على ريعها.
وينص قانون “حماية وإدارة أملاك الغائب” على تشكيل لجنة يرأسها “قيّمان” يتصرفان بأملاك سكان شمال شرقي سوريا الموجودين في الخارج، ليس بأصل الحق ولكن لهم فرصة لاستثمار هذه الأملاك.
وهو ما يعني أنها لا تزال رغم ادعائها الالتزام بالقوانين الدولية، وإلغاء القانون استجابة لحاجات السكان المحليين، تمارس على أرض الواقع مثل هذه الانتهاكات التي تعد مخالفة صريحة لنصوص غير قابلة للتأويل في القوانين الدولية المطبقة على سوريا كونها في حالة نزاع.
أصدر “المجلس العام للإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا” في 5 من آب الماضي، القانون رقم (7) لعام 2020 المؤلف من (21) مادة تحت مسمّى “حماية وإدارة أملاك الغائب”، ليعود ويوقف العمل به في 12 من الشهر نفسه، معلنًا أنه سيقوم بإعادة النظر به وصياغته لتلافي “التداعيات التي يمكن أن تحصل من جراء تطبيق هذا القانون، والناجمة عن سوء فهمه والاختلاف في تفسير مواده”.
ويُعتبر هذا القانون الأول من نوعه في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” الذي يتعامل بشكل مباشر مع أملاك “كل من غادر الأراضي السورية مدة سنة أو أكثر بقصد الإقامة الدائمة والمستمرة خارجها”، وفق ما ورد في القانون. |
التعامل مع العقود غير المسجلة
وحول الإجراءات التي يمكن من خلالها التعامل مع عمليات البيع التي تمت في أثناء الحرب السورية ولم يتم تسجيلها رسميًا بالسجل العقاري، بيّن الحمد أنه في الحالات التي يتوفر فيها عقد بيع بين طرفين بحضور شهود، حتى لو لم يكن مسجلًا، على “قسد” الاعتراف به، بعد طلبها حضور طرفي العقد والشهود أمام محكمة تابعة لها.
وأشار إلى أن عدم الاعتراف بهذه البيوع فيه تجاوز واعتداء على حرية الأشخاص في التصرف بملكهم، وهو ما يفرض على جميع الأطراف المسيطرة بما فيها الحكومة السورية إيجاد آليات للتعامل مع آلاف العقود والمعاملات التي لم تُسجل في مؤسسات الدولة.
واعتبر الحمد أن “قسد” وغيرها من الفصائل المسلحة تستخدم عدم التسجيل كذريعة لكي تبقى لديها الفرصة للاستثمار بأملاك سكان المناطق التي تسيطر عليها، لافتًا أيضًا إلى أن ما تقوم به من رفض لوثائق التوكيل فيه تجاوز لحق الشخص الطبيعي بأن يوكل غيره، إذ يحق لكل شخص القيام بعمل قانوني معين لمصلحته، وهذا ما يطابق تعريف عقد الوكالة.
تيارات منقسمة داخل “قسد”
من جانب آخر، لفت الحمد إلى أن “قسد” ترفض حتى الآن التعامل بشكل صريح مع المؤسسات الحقوقية المحلية، فضلًا عن أنها لا تمنح لها التراخيص لمزاولة عملها في مناطقها، وهي تسد الأبواب أمام العمل الحقوقي والتوثيق ومراقبة أدائها، بينما تمارس انتهاكات واسعة من قبل عناصرها.
ويعتقد الحمد بوجود جهات داخل “قسد” تضرب بعرض الحائط كل القوانين الدولية والدعوات للالتزام بحقوق الإنسان، وأخرى تسعى للتكيف والاستجابة معها، وتبدي نوعًا من ردود الفعل الإيجابية تجاهها.
وأضاف بهذا الصدد، “نحن أمام وضع معقد جدًا تسهم أجنحة داخل (قسد) في زيادة تعقيده، وهو ما يؤثر بشكل كبير على السلم والاستقرار المحلي في المنطقة”.
–