سوريا التي تحترق
إبراهيم العلوش
يكتمل احتراق سوريا اليوم مع احتراق الغابات الساحلية الجميلة، بعد أن احترقت قلوبنا على أبنائنا وعلى بيوتنا وعلى معتقلينا وعلى مخطوفينا الذين غابوا عن أعيننا في مفارز المخابرات وفي أقبية التعذيب، التي تحولت إلى أفران للقتل مثل أفران الغاز النازية.
أعلن رامي مخلوف تعاطفه مع ضحايا الحرائق بعد أن أجلى عائلته إلى خارج سوريا ضمن تسويات المافيا التي يتبادلها آل مخلوف مع آل الأسد، وخرج مجددًا بجلد الخروف يستعطف ويسأل الناس التضامن معه من أجل استرداد ما يمكن استرداده من أمواله المستولى عليها من قبل شركائه السابقين في نهب السوريين.
القاعدة العسكرية الروسية تجاهلت الحرائق كما تجاهلت موت السوريين بالغاز وبالصواريخ وبالقصف الجوي، الذي ينفذه الطيارون الروس بلا أي رحمة، ضد الأسواق والمستشفيات والمدارس بحجة الحفاظ على هيبة الدولة التي يبتلعها بشار الأسد.
الإيرانيون غابت فتاويهم وعمائمهم، وغابت ميليشياتهم وغاب قتلتهم عن تقديم أي مساعدة لإطفاء الحرائق، فهم لا يزالون يحلمون بشق طريق دولي من إيران إلى لبنان لتصدير الصواريخ ونشر الحجاج المدججين بالكراهية وبالأحقاد التاريخية، التي مضى زمنها وصارت مكرورة إلى درجة تثير السأم.
وصلت الحرائق إلى مستشفى “القرداحة”، وتم إجلاء المرضى والعاملين هناك بينما تحلّق طائرات الهليكوبتر الروسية بلا إحساس بالمسؤولية تجاه البشر، ولا تجاه البلاد، التي انتهكت سيادتها وحوّلتها إلى حقل للرمي ولتسويق الخردة العسكرية.
يصطف السوريون بطوابير من أجل الحصول على الخبز وعلى الغاز والبنزين، وتحترق قلوبهم كل لحظة وهم يشاهدون عناصر الميليشيات التي أحرقت البلد وهم يتجاوزون الدور ويستولون على مخصصاتهم، فلم يشبعوا من كل النهب الذي مارسوه على المدن وعلى الناس، وهم يبحثون عن ضحايا جدد من أجل أن يثبتوا قدراتهم وسطوتهم.
تحترق قلوب المهاجرين على أيام طفولتهم وذكرياتهم ومدنهم، وعلى لغتهم التي صارت غريبة في مهاجرهم البعيدة، وصارت اللغات الأخرى تتزاحم على إبعادها من ذاكرتهم ومن ألسنتهم الحائرة في إخراج الحروف والكلمات، تحترق قلوبهم على الزمن الذي أحرقته الطغمة المخابراتية وهم يرون الغابات المشتعلة ويتذكرون جمال صلنفة ومصياف والقدموس، وصولًا إلى كسب ذات الجمال المدهش. تحترق قلوبهم وهم يرون نبوءة الشبيحة وهي تتحقق: الأسد أو نحرق البلد! حقًا لقد احترق البلد وتحول إلى مستعمرة إيرانية روسية أمريكية تركية من أجل أن يبقى الأسد وطاقمه المخابراتي.
يحترق الزمن أيضًا بالقصف المتواصل وبجرائم الميليشيات المتوحشة، ولا أمل بوقف هذا الحريق المندلع منذ عشر سنوات إلا بإرادة دولية باتت مفقودة، وقد تبدو شبه مستحيلة في ساحات الشطرنج الدولية التي تتعامل مع البشر والبلدان كأحجار لتبادل الجولات والمصالح والتواطؤات التي لا يهمها البشر ولا الشجر.
تبدأ حروب جديدة في القوقاز، ولكن رهانات الدول تستمر في الحرب ضد السوريين، وقد بدأت بعدنا حرب اليمن وقبلنا بدأت حرب ليبيا ولم تنتهِ حرائقها المستمرة، هذه الحروب التي تدخل مع حرب الأسد في خانة الحروب الدائمة التي تيسر بيع الأسلحة وتحرك المصالح الاستراتيجية والتكتيكية لقادة عسكريين، يتسلون باسترجاع معلوماتهم الميدانية والمخابراتية، ويستظهرون قدراتهم على القتل والحرق بلا رحمة، وبلا تردد قد يسيء إلى سمعتهم أو إلى مهاراتهم العسكرية والسياسية.
لا نستعرض هذه الحرائق التي في جبالنا وفي قلوبنا من أجل تسوّل الشفقة، بل لنتأمل قسوة الزمن بحقنا وبحق أبنائنا الذين يتلوون تحت التعذيب، أو بحق أيتامنا وأراملنا الذين يتحول الزمن في أفواههم إلى كتلة من المرارة التي لا تجدي كل المنكهات الكاذبة بتخفيف مرارتها، فالقتلة هم الذين يوزعون الشعارات والوعود المعسولة من أجل تخفيف جحيم الحرب التي صاروا يتاجرون بها وبأهدافها، بعد أن تحولوا إلى سماسرة للدول الداعمة والدول المحتلة والدول العابرة.
تحترق الأشجار في الجبال الساحلية وتتحول إلى صحراء، وتحترق الدولة السورية بتحولها إلى مافيا، وتحترق الجماعات المسلحة التي تتاجر بالدين وتبيع صكوك الغفران التي يحتكرها الشرعي أو حامل السلاح الذي لا يعرف لمصلحة من يموت مقاتلوه، هذه الحرائق تخرجنا من ثيابنا وتحرق الزيف الذي اختبأنا خلفه بعناقيد الشعارات والأيديولوجيات التي تعطينا اليوم الرماد بدلًا من الشجر، وتعطينا “الكبتاغون” بدلًا من الدواء، وتعطينا الجلادين بدلًا من الإخوة، وتعطينا المافيات بدلًا من الدولة.
حرائق في كل مكان وفي كل لحظة، وقلوبنا تحترق معك كل يوم يا سوريا الحزينة!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :