عنب بلدي – زينب مصري
بعد مضي حوالي شهر على حرائق اندلعت في غابات حماة (غربي سوريا) بمنطقتي الغاب ومصياف، شبت النيران مجددًا، في 8 من تشرين الأول الحالي، في عدة مناطق بمحافظات حمص واللاذقية وطرطوس، لتلتهم أكثر من عشرة آلاف هكتار من الأراضي الحرجية والزراعية.
وصفت وزارة الزراعة في حكومة النظام السوري هذه الحرائق بـ”الأكبر في تاريخ سوريا”، إذ سُجلت أربع وفيات، ونحو مئة حالة اختناق، وخسائر كبيرة في البيوت البلاستيكية وأراضٍ مزروعة بالأشجار المثمرة والفواكه، واحتراق منازل مواطنين.
ماذا بقي تحت الرماد
بلغت المساحات المحروقة في محافظتي طرطوس واللاذقية 11 ألفًا و500 هكتار، 60% منها أراضٍ حرجية، والمساحة المتبقية هي أراضٍ زراعية، بحسب الحصيلة النهائية للأضرار التي أعلن عنها وزير الزراعة في حكومة النظام السوري، محمد حسان قطنا، خلال لقاء مع إذاعة “شام إف إم” المحلية.
وأوضح الوزير أن إجمالي المساحات المزروعة في الأراضي الزراعية هي 4% فقط، لافتًا إلى أن محاصيل الزيتون هي الأكثر تضررًا، إضافة إلى تضرر بعض الأراضي بشكل كامل، بعد إحصاء 171 حريقًا في المحافظات الثلاث.
ورصد تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في 12 من تشرين الأول الحالي، تضرر 140 ألف شخص، أي ما يعادل 28 ألف أسرة، من الحرائق بشكل مباشر، من خلال تدمير وتلف منازلهم وممتلكاتهم، بالإضافة إلى الأراضي الزراعية، وفقدان الكهرباء وإمدادات المياه، ومحدودية الوصول إلى الخدمات مثل المستشفيات، ونزوح 25 ألف شخص من مناطق الساحل السوري.
وعود بالتعويض.. هل من موفٍ؟
بالتزامن مع الإعلان عن الحصيلة النهائية لأضرار الحرائق، زار رئيس النظام السوري، بشار الأسد، مناطق الحرائق في ريفي محافظتي اللاذقية وطرطوس، ووعد مواطنين من المنطقة، خلال حديثه معهم، بإعادة الزراعة في أقرب وقت ممكن.
وقال الأسد، في لقاء مع قناة “الإخبارية السورية” الحكومية، إن حكومته “ستتحمل العبء المادي الأكبر” في مساعدة المتضررين ممن فقدوا دخلهم بفقدان زراعتهم، واصفًا الحرائق بـ”الكارثة الوطنية، إنسانيًا واقتصاديًا وبيئيًا”، وأضاف أنه سيجد الحلول بالتعاون مع المسهمين، وأن هناك دعمًا ماديًا منذ الأيام الأولى للحرائق من الحكومة ومنظمات المجتمع المدني.
قُبيل زيارة الأسد وإعلان الحصيلة، برز رجال أعمال سوريون بعضهم عُرف بقربه من النظام، أبرزهم وسيم قطان، وعامر خيتي، ومحمد حمشو، وأديب كبور، وسامر الدبس، سبقوا تصريحاته بتحمل الحكومة الأعباء المادية، وأطلقوا، من خلال غرفة صناعة دمشق وريفها، مبادرة لجمع تبرعات لدعم المتضررين من الحرائق، وصلت إلى 200 مليون ليرة سورية (حوالي 86 ألف دولار أمريكي).
لتنضم إليهم غرف تجارة محافظات حلب وطرطوس وحماة، إذ أعلنت غرفة تجارة حلب عن تبرعها بـ100 مليون ليرة سورية، وتبرع أعضاء غرفة تجارة طرطوس بـ100 مليون ليرة سورية، وأعضاء غرفة تجارة حماة بـ50 مليون ليرة.
كما أعلن رامي مخلوف رجل الأعمال السوري وابن خال رئيس النظام، تخصيصه مبلغ سبعة مليارات ليرة سورية (نحو ثلاثة ملايين دولار) من أرباح مؤسسة “راماك” في شركة “سيريتل”، لدعم متضرري الحرائق.
يرى المتخصص في الشؤون الاقتصادية لدول الشرق الأوسط الباحث الاقتصادي خالد تركاوي أن حكومة النظام السوري تفتقر للموارد اللازمة لتعويض المتضررين.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قال تركاوي إن مساحات واسعة تعرضت للحرائق، وبالتالي فالمتضررون كثيرون، وهذا سينعكس على تكلفة التعويض الكلية التي لا تمتلكها حكومة النظام، إذ إنها فاقدة للقدرة على أداء وظائفها الطبيعية في أوقات طبيعية.
وبحسب الباحث، فإن الخدمات البلدية في المدن والقرى، التي هي “أبسط” خدمات يمكن أن تقدمها الحكومة، تراجعت ولم تنفذ معظم الالتزامات، بالإضافة إلى أن رواتب الموظفين الذين يقدمون خدمات لهذه الحكومة في “تراجع مستمر”.
ما مصلحة رجال الأعمال في التبرع؟
تركاوي قال إن المبالغ التي جُمعت من رجال الأعمال “صغيرة جدًا”، ويُتوقع أن وراءها دائمًا دفعًا حكوميًا من أجل التضامن مع الحكومة وتحويل الضغط منها إلى رجال الأعمال.
وأضاف الباحث أن الحكومة استنزفتهم فعليًا، ولم يعد لديهم إلا القليل من الموارد في سوق صغيرة وفقيرة لم يعد العمل التجاري فيها مجديًا، ويعتقد أن من بقي من رجال الأعمال اليوم أخرج معظم ثرواته خارج البلد، ومن بقي فيها يأتي على أمل أن يكون هناك حل قريب لا يتوقع أنه كذلك.
ولرجال الأعمال مصالح كثيرة في التبرع، بحسب الباحث الاقتصادي يونس كريم، أبرزها التقرب من السلطة والحصول على عقود ائتمان وامتيازات من الحكومة، وتعويم أنفسهم سواء لروسيا أو لإيران أو للنظام السوري، ومحاولة تبييض أموالهم.
وقال كريم لعنب بلدي، إن أرباح رجال الأعمال والامتيازات التي يحصلون عليها لقاء تبرعاتهم أكبر مما يقدمونه، كما أن مصالحهم أكبر، ويتحكمون بمؤسسات الدولة، وبالتالي فإن النظام غير قادر على أن يفرض عليهم دفع الأموال، بل على العكس يسعى النظام لمراضاتهم، وهذه “قمة فشله”، بحسب الباحث، إذ يشير النظام من خلال حجم التبرعات إلى أنه “فشل” حتى على مستوى الضغط على “أمراء الحرب” وبات هو بحاجة إلى الجميع.
أربعة أسباب لتجاهل التعويض
ولتعويض متضرري الحرائق التي شبت في عدة محافظات، خلال أيلول الماضي، طلب اتحاد الفلاحين من الاتحادات في المحافظات التي شبت فيها الحرائق إحصاء المواقع المتضررة منها، مشيرًا إلى أن التعويض سيجري من “صندوق التخفيف من آثار الجفاف والكوارث الطبيعية”، وسيكون فقط للمتضررين من الحرائق التي حصلت بفعل حرارة المناخ.
لكن مدير “الصندوق” في وزارة الزراعة السورية، محمد البحري، قال إن شروط “الصندوق” لا تتوافق مع الحرائق التي شبت في محافظة حماة واللاذقية، في أيلول الماضي، مضيفًا أن الحرائق التي اندلعت في منطقتي الغاب ومصياف قد أصابت مواقع حرجية، والنسبة الكبرى التي تأثرت هي الأشجار الحرجية، ونسبة قليلة من الأشجار المثمرة تأثرت بالحرائق، كما أنها لم تطل أي نوع من أنواع المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والقطن وغيرهما.
عدم تعويض حكومة النظام ليس جديدًا، إذ لم تعوض المتضررين من حرائق أتت على أراضٍ عام 2019، بفعل نيران امتدت من أحراش في ريف اللاذقية وطرطوس وحمص، ما يثير التساؤلات عن جدية النظام السوري في مسألة تعويض المتضررين.
الباحث الاقتصادي يونس كريم قال إن حكومة النظام السوري تجاهلت تعويض متضرري الحرائق في المناطق السورية سابقًا لأسباب كثيرة، منها وقوع معظم الأماكن الجبلية تحت سيطرة “الشبيحة”، والمقصود بهذا اللفظ، عائلات كانت قبل الثورة السورية تهرّب الدخان وأمورًا أخرى، عن طريق الساحل السوري.
وكان الدخول إلى تلك المناطق ممنوعًا لوجود تنقيب عن لقى أثرية، كما أن الحرائق كانت محدودة وصغيرة ليست ذات أهمية، وكان تنظيم الغابات، لمنع حدوث حرائق كبيرة، ممنوعًا، بسبب أن تلك الغابات كانت الطريق لتهريب السلاح والدخان والنفط والآثار والكثير من الأمور الأخرى التي كان يهربها رجال محسوبون على عائلة الأسد ونظامه، وتورط بها ضباط وأسماء كبيرة.
وأضاف الباحث أن عدم شمل تعويضات الحرائق للمواطنين بسبب عدم موافقتهم للشروط، يعود لعدة أسباب، أبرزها أن أغلب المناطق المحروقة غابات، وهي أملاك عامة، وبالتالي يُعتبر المواطنون متعدين على أملاك الدولة، لذلك فإن المسألة قانونية، ولا يستحق المواطنون التعويض وفق قوانين الدولة السورية.
أما السبب الثاني فيكمن، وفقًا للباحث، في الموازنة العامة للعام الجديد، إذ لا تمتلك حكومة النظام أي قدرة على تقديم تعويضات، ولو كانت مستعجلة، بعد فقدان الموازنة حوالي 80% من قيمتها نتيجة تقلبات سعر الصرف.
ويتمثل السبب الثالث في أن مسألة التعويض تحتاج إلى مجموعة من القوانين واللوائح التنفيذية للقيام بها، لكن وزارتي الزراعة والمالية والجهات المعنية لم تقم بهذا الأمر، وبالتالي لا يوجد شيء يمكن قياسه أو تطبيقه عليهم.
ويكمن السبب الرابع في امتناع حكومة النظام عن التعويض، بالخوف من فتح تعويض هذه الحرائق المجال لتعويضات أخرى، خاصة مع وجود دمار كبير في المدن السورية، وفقًا للباحث.
“فعل فاعل”.. مهرب النظام
في أيلول 2011، أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، المرسوم التشريعي رقم “114” لعام 2011، القاضي بإحداث “صندوق التخفيف من آثار الجفاف والكوارث الطبيعية”.
وعرّف المرسوم الكوارث الطبيعية بأنها حوادث لا يمكن منعها أو تفاديها تنجم عن انحراف العوامل المناخية والبيئية أو الحيوية عن معدلاتها الطبيعية، وتؤدي إلى خسائر في الإنتاج الزراعي الحيواني والنباتي، والمتضرر هو الشخص الذي يستحق التعويض ويعمل في الإنتاج الزراعي.
وبحسب المادة رقم “3” من المرسوم، يتولى “الصندوق” تعويض المتضررين عن الخسائر المادية والأضرار التي تصيب إنتاجهم بسبب الجفاف والكوارث الطبيعية أو الأحوال المناخية أو البيئية أو الحيوية، من صقيع أو موجات حرارة مرتفعة أو سيول أو عواصف ترابية أو برد أو رياح شديدة أو شدات مطرية أو إصابات حشرية أو جوائح مرضية على الزراعات أو الثروة الحيوانية، وينجم عنها خسائر تزيد على 50% في الإنتاج الزراعي، إضافة إلى تجاوز المساحة المتضررة 10% من مساحة الوحدة الإدارية بالنسبة للإنتاج النباتي، ويحسب التعويض من تكلفة الإنتاج فقط، ولا يشمل ذلك المناطق المعلَن أنها أضرار عامة.
كما أعلنت وسائل إعلام محلية قبض السلطات على أحد مفتعلي الحرائق في مدينة جبلة بريف اللاذقية، كانت وزارة الداخلية أعلنت أن حرائق أيلول الماضي كانت “بفعل فاعل”، معلنة القبض على ستة أشخاص بتهمة التسبب بها.
الباحث الاقتصادي يونس كريم يرى أن الحكومة تعلن أن الحرائق بفعل فاعل، بسبب موعد الحرائق، إذ لا وجود لطقس حار جدًا يسمح بحدوثها، ويدل التوزع الجغرافي لها ومساحاتها على أنها بفعل فاعل، إضافة إلى أنها أداة “للاقتصاص والحرب” بين التيارات المتصارعة في سوريا، المتمثلة بحكومة النظام والروس والإيرانيين وأسماء الأسد ورامي مخلوف، كما أن الأهالي هم الذين قدموا شكاوى على أن الحرائق بفعل فاعل.
وبحسب رأي الباحث خالد تركاوي، فإن قضية اتهام النظام السوري فاعلين مجهولين بالحرائق، هي نهج اتبعه النظام منذ سنوات طويلة، “فلطالما كان وراء القتل والتهجير والحرق والخراب الذي حصل في سوريا فاعلون مجهولون لم تكشف عنهم الحكومات المتعاقبة”.
كما أنها مجرد خطاب إعلامي أيديولوجي، هدفه تجييش الناس وحشدهم في وجه ما تسميه حكومة النظام “مؤامرة ضد الشعب يجب التصدي لها”، وبالتالي الصمود بأقل الإمكانات، وعدم المطالبة بحقوقهم الطبيعية المتمثلة في حالة الحرائق بمعاقبة الفاعل، إن وجد، وتعويض المتضررين.
–