حمص – عروة المنذر
على الضفة الشرقية لنهر “العاصي” وسط سوريا، وتحديدًا شمال غربي حمص بـ20 كيلومترًا، ينتصب الصليب فوق أكوام من الحجارة البازلتية التي كان في السابق منازل مسيحيي قرية “أم شرشوح”.
مسح إلياس، الشاب العشريني، عرق جبينه وهو يحطم أحد أعمدة بيته القديم، وقال لعنب بلدي، “رغم توقف القتال منذ عامين، فإن جرس الكنيسة المهدمة بقي صامتًا، كنت أتصبب عرقًا من قرعه كل يوم أحد، أما الآن فأتصبب عرقًا وأنا أهدم ما تبقى من منزل أبي لاستخراج ما تبقى فيه من الحديد”.
الدمار المنتشر في أنحاء القرية الذي خلفته الحرب يوضح شدة المعارك والقصف الذي تعرضت له، فبالكاد تستطيع أن تتعرف إلى معالم المنازل المدمرة التي تحولت إلى أكوام من الحجارة.
انهار خزان المياه في أعلى تلتها قبل “التسوية” بفترة قصيرة، نتيجة إحدى غارات الطيران الذي داوم على زيارتها منذ عام 2013 وحتى أيار من عام 2018.
تعايش سكان القرية المسيحية الوحيدة في ريف حمص الشمالي وسط بيئة متنوعة الثقافات، يجاورها من الغرب والجنوب علويون ومرشديون في قريتي كفرنان وجبورين، ومن الشمال يحدها البدو، ومن الشرق تطل حارة كردية وفي محيطها المتداخل توجد مزارع مدينتي الرستن وتلبيسة.
في خيمته جهّز أبو حامد إبريق الشاي على موقد الحطب، وقال بلهجته البدوية لعنب بلدي، إنه كان “صديقًا مقربًا” لثلثي أهل القرية، “كانوا أناسًا طيبين لم يتسببوا بأي مشكلة في المنطقة، لكن كمية الأذى الذي تعرضوا له من طرفي الصراع كانت كبيرة جدًا، ما دفعهم إلى الرحيل”.
لا حياد وسط حرب “التحرير”
“أم شرشوح” تعود تسميتها إلى اللغة السريانية نسبة إلى فرع من نهر “العاصي” يسمى “شرشوح”، يشق أرضها مشكّلًا “جزيرة” تسمى “زوية”. أهلها، الذين بلغ تعدادهم نحو 1600 نسمة عام 2011، ينتسبون لطائفة الروم الأرثوذكس، لكنهم اليوم أصبحوا أغرابًا عنها بعد أن أصبحت مهجورة منذ أكثر من عامين.
منذ بداية الاحتجاجات الشعبية في سوريا حاول أهالي القرية النأي بأنفسهم والوقوف على الحياد، رفضوا حمل السلاح عقب تسلح القرى العلوية، ووقفوا في وجه بعض الفصائل التي حاولت تحويل قريتهم إلى قاعدة لشن الهجمات على القرى المجاورة، لكن ذلك لم ينفع.
بقي أهلها متأرجحين دون الوقوف مع طرف دون آخر، إلى أن قتل عناصر من فصائل المعارضة رجلًا يعمل كمعقب للمعاملات في دائرة المواصلات في حمص بتهمة التخابر مع النظام، ورموا جثته قرب إحدى الحاويات دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها، بعد أن نهشت منها الكلاب الشاردة، حتى توسط بعض أعيان المنطقة مع القائد العسكري للسماح بتسليمها لأهل القتيل.
“إدخال الجيش إلى القرية كان قرارًا خارجًا عن إرادتنا، عانى سكان القرية طوال سنتين من بلطجة بعض عناصر فصائل المعارضة، والقادة يتدخلون ويُحل الإشكال”، حسبما استرجع نوار عيد، الذي تحدث لعنب بلدي عما جرى في قريته، وتابع، “لكن ما حصل مع معقب المعاملات لم يكن مقبولًا، لذا اجتمع وجهاء القرية وقرروا الانحياز للنظام”.
دعا سكان القرية الجيش التابع للنظام السوري لحمايتهم، إلا أن من دخل هي قوات “الدفاع الوطني” الرديفة، التي اعتبرت ممتلكاتهم غنيمة لا ترد.
انتشر مقاتلو “الدفاع الوطني”، الذين جُنّدوا من القرى المجاورة، مرتدين لباس الجيش، وبنوا الدشم والتحصينات على مداخل القرية ما أثار قلق سكانها، الذين استعدوا للرحيل، وبدؤوا بتحميل أثاث منازلهم، لكن عناصر “الدفاع” أوقفوهم وطمأنوهم أن الوضع “تحت السيطرة” وما هي “إلا أيام” حتى يعودوا إلى بيوتهم.
“حينما خرج الجميع أصبحت العودة ممنوعة بحجة أن المنطقة عسكرية، وسُرقت بيوت القرية كاملة”، حسبما قال أبو لؤي من سكان القرية لعنب بلدي.
خاضت قوات المعارضة، التابعة لفصيلي “جبهة النصرة” و”حركة أحرار الشام”، معركتين خاسرتين في سبيل استعادة القرية، حتى تمكنت من السيطرة عليها عام 2014، وحينها انتقلت بيوت القرية من حال السرقة إلى حال الدمار.
ألقى نورس البيطار نظرة أخرى على قريته وهو يشعل سيجارته الثانية، مشيرًا لعنب بلدي نحو المنازل التي اتخذتها فصائل المعارضة كمقرات لها، والتي تدل عليها الشعارات والعبارات المرسومة على جدرانها، التي بقيت صامدة وسط الدمار والقصف.
“دُمرت القرية بشكل كامل، والمقرات صامدة، فمن كان هو المستهدف الحقيقي من ذاك القصف؟”، تساءل نورس.
هجرة بلا عودة
بدأ أهل القرية، مع تصاعد حدة المعارك وفقدان أملهم بالعودة إليها، ببيع عقاراتهم عن طريق وسطاء من أصحاب المكاتب العقارية، وخاصة بعد استيلاء “المحكمة العليا” في ريف حمص الشمالي على أراضيهم، وعرض تأجيرها بالمزاد العلني في أثناء سيطرة الفصائل المعارضة على “أم شرشوح”.
يعود سامر صليبي إلى قريته كل عام، بعد أن استقر في وادي النصارى بشكل دائم، ليجدد عقد إيجار مزرعته، لكنه لا يعتقد أن أهالي “أم شرشوح” عائدون إليها قريبًا، “إلى الآن لا يوجد أي جهد حكومي أو كنسي لإعادة الحياة الى القرية، فهي مدمرة بشكل كامل، ولا طاقة للأهالي بإعادة إعمارها من جيوبهم”.
لا يفكر سوى قلة من أهالي القرية بالعودة إليها حسب تقدير سامر، الذي قال لعنب بلدي إن نصفهم باعوا مزارعهم بعد أن فقدوا القدرة على زراعتها، وأضاف “أنا لا أستطيع بيعها فهي آخر ما يربطني بمسقط رأسي”.