حديث رياض الريس مع الإمام علي
نبيل محمد
أن تعود للتاريخ لتجيب عن أسئلة الراهن، فأنت تخوض في منهجية تقليدية، لكنها بعيون الباحثين والنقاد والكتّاب وسيلة نقية للفهم وإدراك الراهن، كونها تعتمد على حقائق حدثت بالفعل، تبني منها تصورًا ورؤية لما يحدث أو سيحدث، هذه العودة ليست محكومة بالبحث والتقصي واستنتاج القواعد والمفاهيم، بل قد تكون عودة إبداعية جريئة، مغامرة كتابية غير محكومة بقالب، كان رياض نجيب الريس الذي غادر عالمنا قبل أيام، واحدًا ممن خاضوها بصفته الصحفية، حين أعاد ترتيب حِكَم ومفاهيم في الحياة والسياسة على لسان الإمام علي بن أبي طالب، تحت أسئلة بسيطة، لا تبدو صحفية متينة بقدر ما هي تساؤلات مواطن يائس، وجهها “صحفي المسافات الطويلة” ورتَّب تحتها ما شاء مما اقتصه من “نهج البلاغة” الذي جمعه الشريف الرضي.
يسأل رياض الريس الإمام علي: “لقد اختلط عندنا الحق بالباطل، فكيف نميّز بينهما؟” فـ”يجيب” الإمام علي: “الباطل أن تقول سمعت (.. و) الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرضا به. (.. و) من صارع الحق صرعه”. أسئلة جابت في ذهن الصحفي، الذي لم يجد لسانًا مقنعًا يمكن أن يجيبه إجابة بمستوى السؤال في عصره، خاصة بعد تكاثف تلك الأسئلة، في مرحلة وصل فيها الريس إلى “أبواب مغلقة”، بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.
لقاء الريس هذا، جاء في كتيب جمعه بناء على مقال صحفي سابق تخيل فيه الحوار الافتراضي، فلم يجد أن الحوار انتهى هنا، وكان كلما عاد لنهج البلاغة صاغ سؤالًا جديدًا فوق ما قرأه، ليكون هذا الكتاب واحدًا من عناوين عديدة تركتها مؤسسة فكرية ثقافية صحفية عربية، على هيئة رجل واحد هو الراحل رياض الريس، الصحفي الكاتب، مؤسس الصحف والمجلات، الناشر الجريء الذي حوّل دار النشر التي تحمل اسمه إلى أول حلم يفكر فيه كثير من الكتّاب الناشئين، ليروا أسماءهم مستقبلًا على غلاف واحد مع اسم رياض الريس.
محزن أن كل المرثيات التي وردت من قبل كتاب وصحفيين وأصدقاء للريس، لم تستذكر “الكاتب الحر” و”الصحفي العنيد” بقدر ما رثت هذه الشخصية برثائه، في ظل مرحلة تكاد تستحيل فيها الكتابة الحرة، مع تعدد أساليب التقييد، التي تجاوزت الديكتاتوريات السياسية التقليدية، ومُلاك وسائل الإعلام، إلى شبكة قيود رقمية أحدثتها ثورة “السوشيال ميديا”. فجاء الريس كمثال لصحفي لامع في الصحافة الورقية التقليدية، وكأنه آخر الفرسان حسبما كتب بعض معاصريه.
يقول الروائي السوري فواز حداد في رثاء ناشره: “شكرًا رياض الريس، أنا وكثيرون غيري مدينون لك، لولاك لما رأت كتبي ربما النور، كنت خير صديق وراعٍ لمسيرتي الروائية. لم تكن ناشري فحسب، كنت المعلم”، هذا الرأي قد لا يكون رأي الجميع بدار رياض الريس، فللدار، صاحبة المكانة الكبيرة في سوق النشر العربية، من ينتقدها، ومن انتظر سنوات على أبوابها ولم يستطع النشر، ومن فوجئ بشروطها خاصة في السنوات الأخيرة، لكن ما قاله حداد يوحي بزمن جميل عن أيام العلاقة بين الناشر والكاتب، تلك العلاقة التي من النادر أن تجدها اليوم، في ظل غياب الدور الأصيلة، أو حتى سباق المتبقي منها لمواكبة السوق.
لم نعايش رياض الريس في أوج عمله الصحفي، سمعنا عنه في مراثيه أكثر مما قرأنا من مقالاته، عرفنا اسمه صحفيًا متقاعدًا وصاحب واحدة من أهم دور النشر العربية. لم نعرف تلك المرحلة التي وُصف فيها بأنه الصحفي العنيد الذي لا يوارب وفق معاصريه، الرحالة الذي لا يهدأ، المتنقل من جريدة إلى أخرى. وعرفنا اليوم أيضًا أنه قال، “إن الرحلة نحو الذاكرة هي دومًا لراكب واحد فقط”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :