عنب بلدي – حباء شحادة
على أرض المخيم القاسية جلست المرأة الستينية منحنية الظهر تنظر إلى حفيدتها اليتيمة وهي تلعب، كبّرتها الهموم، كما قالت لعنب بلدي، مشيرة إلى تجاعيدها التي كانت ضحكة كفيلة بإخفائها وهي تنشد “بعد ما كنت وردة على مي ما عاد يرضانا الوارد على مي (…) كبر بينا الزمان وما استحى”.
الطعام والمأوى لم يكن يومًا من هموم تركية حقي، التي استرجعت بلحظات كيف كانت تستقبل ضيوفها مهما زاد عددهم، بأصناف السمك الطازج الذي تصطاده من البحيرة مباشرة في بيتها بسهل الغاب، لكن مائدتها بشمالي إدلب فقيرة بالسمك أو الضيافة.
نظرت بتعب بعيدًا وهي تعدد أبناءها الذين تفرقوا ما بين المخيمات وبلدان اللجوء وتحت التراب، ولم يبقَ لها سوى ابنة أرملة مع طفلتها الصغيرة، صوتها المحمل بالغضب يعكس عزيمة لم تتغلب عليها المصاعب.
الحياة في المخيم ليست سهلة على أي من سكانها، لكنها أصعب بالنسبة للمرضى وكبار السن، الذين رغم تصنيفهم من بين الفئات “الأكثر ضعفًا”، وفق التقييم الإغاثي الدولي، فإنهم لا يعتبرون “حالات خاصة” ولا تقدم لهم مشاريع مخصصة حتى في ظل تهديد فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، كما قال منسق الطوارئ في منظمة “بنفسج”، أحمد قطيش، لعنب بلدي.
“سجلوني أنا وابنتي وقدموا لنا أربعة أو خمسة ألواح من الصابون. قلت لهم إن الطعام أهم، ومنذ شهور إلى الآن لم يأتِ منهم أحد”، قالت تركية باستياء وهي تجلس أمام خيمتها المهترئة في مخيم “الريان”.
ما الذي يحتاج إليه المسنون؟
لم يخفِ الرجل الثلاثيني مفاجأته حين سمع بـ”يوم كبار السن العالمي“، الموافق للأول من تشرين الأول، لكنه رحب بالاهتمام بسكان المخيم الذي يديره وإن كان ليوم واحد بالعام.
“كل المخيمات تفتقر للتجهيزات المخصصة للمسنين، لكنها مليئة باحتياجاتهم”، على حد تعبير عبد السلام اليوسف، مدير مخيم “التح” في ريف إدلب الشمالي.
قاد عبد السلام عنب بلدي نحو خيام المسنين، وعدّد احتياجاتهم حسب تقييمه، “تخصيص الحمامات الملائمة ووضعها قريبًا من خيامهم، وتأمين المعقمات والمنظفات، والتكفل بلباسهم وتدفئتهم شتاء ومساعدتهم صيفًا على احتمال الحرارة”، التي سببت عدة حالات إغماء للكبار في السن في المخيم خلال الأشهر الماضية.
لم يقم سطام الحسين لاستقبال الضيوف، لكنه حياهم بابتسامة عريضة وأشار إلى زوجته لتنتبه إلى قدومهم، “لا تسمع جيدًا”، قال الرجل السبعيني لعنب بلدي.
يعيش سطام مع زوجته في الخيمة وحدهما، بعد أن قادهما النزوح لتجربة حياة “البدو”، كما قال وهو يضحك، قبل أن يشكو حاجته إلى مصباح يوضح الطريق لدورات المياه ليلًا، “تطلب معونتي وأنا لا أرى جيدًا وهي لا ترى جيدًا، ونتلمس طريقنا خارجًا”.
رغم انشغال العالم منذ بداية العام الحالي بفيروس “كورونا”، الذي يعتبر كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة من الأكثر عرضة للإصابة به، فإن سطام لم يعلم به قبل أن يمد يده لمصافحة شخص رفض متعللًا بالمرض.
“نحن نحب رد المرض، أنا عمري 75 والحجة عمرها 75 لكن لا كمامة لدي”، إلا أن عدم رد السلام والمصافحة ليس واردًا في ذهن سطام الذي يعتبر ذلك تصرفًا “عيبًا”.
نفذت بعض المنظمات الإغاثية حملات للتوعية، ووزعت كمامات ومعقمات شملت كبار السن في المخيمات، وقال مدير فريق “بلسم” التطوعي، قصي الخطيب، لعنب بلدي، إن حملة مخصصة لكبار السن جرت للتأكيد على التزامهم بأساليب الوقاية.
كما تخطط منظمة “إنسان” لتقديم خدمات دعم نفسي وصحي واجتماعي “خاصة لكبار السن” للتوعية بالتعامل مع المرض “دون هلع أو خوف”، حسبما قال مدير الشراكات والعلاقات العامة فيها، خالد الفجر، لعنب بلدي.
في حين بلغت أعداد المصابين بالفيروس بالمنطقة حتى نهاية أيلول الماضي 1073 شخصًا، وفق إحصاء “وحدة تنسيق الدعم“، كما أن أعداد المصابين بالأمراض المزمنة، مثل السكري والضغط والقلب، من كبار السن الذين لا يحصلون على حاجاتهم الصحية في المخيمات يفوق ذلك العدد، حسب تقدير مدير فريق “منسقو استجابة سوريا”، محمد حلاج.
نحو 135.7 ألف شخص مسن يعيشون في المخيمات، كما قال حلاج لعنب بلدي، وأبرز مشاكلهم هي الأمراض المزمنة التي يخضع تأمينها لمشاكل تبدل الأسعار وغلائها وعدم توفر كل الأنواع المطلوبة، “لا يملكون القدرة على العمل ولا مصدر دخل ثابتًا لهم”، حسبما أضاف المهندس الذي يشرف على تحديث الإحصائيات الدورية للحاجات الإنسانية في شمال غربي سوريا.
نسبة العائلات التي يتحمل كبار السن إعالتها في المنطقة تصل إلى 38%، وفق أحدث تقييم صدر لمبادرة “REACH” نهاية أيلول الماضي لاحتياجات النازحين الجدد في شمال غربي سوريا.
ومع عدم قدرة 55% من كبار السن الذين يسكنون وحدهم على تأمين احتياجاتهم الغذائية بأنفسهم، فإن تأمين الدواء وحتى مستلزمات النظافة والتعقيم يبقى صعبًا.
قال رئيس الرقابة الدوائية في مديرية صحة إدلب، مصطفى دغيم، لعنب بلدي إن الأدوية متوفرة مجانًا في مراكز الرعاية الأولية التي تدعمها المنظمات الإغاثية، وكان تحويل التعامل النقدي من العملة السورية إلى التركية بهدف تثبيت أسعارها.
لكن الدواء ليس متوفرًا على الدوام، والمراكز الصحية بعيدة عن تجمع المخيمات، حسبما قال عبد السلام اليوسف، مدير مخيم “التح”، مشيرًا إلى أن ما لا تقدمه العيادات المتنقلة التي تزور المخيم مرة في الأسبوع من الدواء يسعى أهل المخيم لتأمينه عن طريق التواصل مع الجمعيات الخيرية.
سطام لا يقضي وقته قلقًا من الأمراض، لكنه يمشي منحنيًا ببطء للقاء جيرانه وأهل “حارته” في المخيم من كبار السن ليطمئنوا على بعضهم، “أحب الجلوس معهم، منذ أن وصلت إلى هنا وهم يهتمون بي”.
أسهم في إعداد هذه المادة مراسلا عنب بلدي في إدلب يوسف غريبي وإياد عبد الجواد