عنب بلدي – زينب مصري
بعد ثلاثة أشهر من قرار إيقافها بكل أشكالها وصيغها، سمح مصرف سوريا المركزي للمصارف العاملة باستئناف منح التسهيلات الائتمانية والقروض وفق عدة ضوابط وشروط.
ويعد هذا القرار من الخطوات التي انتظرها المواطن السوري، بعدما طوقت الأزمات المعيشية والاقتصادية عنقه داخل حدود بلاده، واشتدت خلال الأشهر القليلة الماضية لتحاربه في خبز يومه ولقمة عيشه وأمواله.
لكن محللين التقتهم عنب بلدي أوضحوا مدى تأثير القرار على المواطن السوري، وأشاروا إلى آثار سلبية لهذا القرار على الاقتصاد السوري.
قروض موجهة لقطاعات محددة
حصر المصرف المركزي، بحسب تعميم صادر في 9 من أيلول الحالي، منح التسهيلات الائتمانية للقطاع الزراعي، وللمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وأصحاب الدخل المحدود، بالإضافة إلى القروض العقارية.
وألزم المصارف العاملة بعدم منح أي تسهيلات ائتمانية دوارة (جاري مدين، حسم سندات…)، حتى صدور تعليمات لاحقة بهذا الخصوص.
واشترط عدم تجاوز سقف التسهيل الائتماني لقروض القطاع الزراعي والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وأصحاب الدخل المحدود، مبلغ 500 مليون ليرة سورية، ومبلغ 400 مليون ليرة سورية في حال كان التسهيل الممنوح قرضًا عقاريًا.
كما اشترط عدم منح أي شكل من أشكال التسهلات الائتمانية للعملاء المتعثرين، بحسب قرار “مجلس النقد والتسليف” رقم “4” لعام 2019، واتخاذ جميع الإجراءات القانونية لتحصيل الديون المتعثرة لدى المصرف.
مصارف “متخمة” بالأموال
توجه المصارف المركزية الاقتصاد الكلي بشكل غير مباشر عن طريق المصارف، وعن طريق التحكم بحجم الائتمانات أو بحجم التسهيلات الممنوحة لأي قطاع، لتنمية القطاعات المختلفة في الدول وإعادة تنشيطها، لأنها تشكل عصب الحياة.
واستأنف المصرف المركزي منح التسهيلات الائتمانية بعد إيقافها في حزيران الماضي، نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية وخوفًا من المضاربة حينها، لأن المصارف العاملة في سوريا لديها الأموال، وهي بحاجة لاستخدامها وإعادة استثمارها من أجل الحصول على إيرادات تغطي تكاليفها.
وهو قرار لإثبات أن سوريا تعود للحياة، والحياة الاقتصادية يجب أن تعود إلى سابق عهدها، وأن المصارف عادت للإقراض، بحسب الباحث الاقتصادي الدكتور فراس شعبو.
وقال شعبو لعنب بلدي، إن المصرف المركزي والمصارف السورية الحكومية والخاصة “متخمة” بالأموال بالعملة المحلية، وتحتوي على حجم هائل منها في خزائنها لا بد من استخدامها، وذلك بسبب التضخم الموجود في سوريا نتيجة الطباعة غير المدروسة للعملة، وضخ الأموال في الأسواق.
ولكن مصرف سوريا المركزي وجه المصارف العاملة بتفعيل التسهيلات للقطاع الزراعي وللمشاريع الصغيرة والمتوسطة، لأنه لا يمكن الحديث عن منح قروض لمصانع وشركات عملاقة أو شركات استيراد وتصدير.
وذلك لأن الوضع الاقتصادي بحاجة إلى بنية تحتية وغذاء ومشاريع صغيرة، يقتات عليها المواطنون، وتوجيه القروض لمشاريع صناعية أو كبيرة “غير مجدٍ”، لا للسوريين ولا للحكومة نتيجة التضخم، “ولا يوجد عاقل يستثمر في سوريا بظل هذه الظروف”، بحسب شعبو.
وأضاف الباحث أن المستفيدين من هذه القروض لا يتجاوزون 1% من الشعب السوري، بسبب الضوابط الموضوعة والتشديد في الضمانات وعمليات الحصول على القرض، خاصة أن المواطن السوري، وفي أحسن الظروف، كالموظف لا يتجاوز دخله 40 دولارًا أمريكيًا، وبالتالي لا يملك “الملاءة المالية” للسداد حسب المصارف، ما يعني أن 70% أو 80% من الشعب السوري لن يستطيعوا الحصول على هذه القروض.
قد يزداد الوضع سوءًا
تتمثل الغاية من التسهيلات الائتمانية في كونها تنموية، وتنشط عادة الحياة الاقتصادية، وعلى الرغم من وجود فوائد عليها ليست غايتها ربحية، إذ إن الهدف الأساسي منها هو تنمية الاقتصاد، لا يسمح الوضع في سوريا بتنمية الاقتصاد بإجراء معيّن كقرار القروض الأخير، لأن الوضع الاقتصادي يحتاج إلى هيكلية اقتصادية وإعادة بناء الاقتصاد السوري بالمجمل.
ويرى الباحث فراس شعبو أنه “من المؤكد” أن استئناف القروض لن يعيد الحياة الاقتصادية إلى وضعها الطبيعي، بل من الممكن أن تزداد الأمور سوءًا ومن الممكن أن يتدهور سعر الصرف، بسبب ضخ العملة في السوق.
فالعملة تُسعّر بالعرض والطلب، وكلما زاد العرض من العملة في السوق تنخفض قيمتها، وبالتالي زيادة منح القروض، أي إن زيادة العملة في السوق تعني زيادة العرض وبالتالي انخفاض قيمتها، وهذه “مشكلة كبيرة”، وبعد فترة على الأغلب سيحدث تدهور في سعر الصرف من جديد، بحسب رأيه.
كما يرى أن المشكلة الاقتصادية في سوريا ليست مشكلة قطاع على حساب آخر، بل هي تكمن في هيكلية النظام ككل، وغياب الرؤية الاقتصادية السليمة، والخطط أو الدعم الاقتصادي لدى النظام السوري.
فالعملة المحلية تتدهور، والبنى التحتية مدمرة، والمواطن الذي يشكل العمود الفقري في الاقتصاد ليست لديه القدرة على الاستهلاك، وبالتالي مقومات الاقتصاد نوعًا ما معدومة، ولذلك فإن قرارات النظام الاقتصادية الأخيرة لن تغير كثيرًا في الاقتصاد.
هل تستفيد المصارف؟
وعن الفائدة العائدة على القطاع المصرفي من استئناف منح التسهيلات الائتمانية، قال رئيس قسم التدقيق والمحاسبة في شركة “الديوان”، الاقتصادي عبد الرحمن رسلان، لعنب بلدي، إن جزءًا كبيرًا من القطاع المصرفي في سوريا حكومي، إلى جانب المصارف الخاصة.
والمصارف الحكومية أغلبيتها مصارف “خاسرة”، حتى قبل قيام الثورة عام 2011، نتيجة ضعف البنية الاقتصادية بشكل عام في البلاد، لذلك فالفائدة على القطاع المصرفي محدودة لأنه بالأساس قطاع “خاسر”.
ولن تستفيد المصارف بشكل كبير من هذا القرار بسبب غياب المودعين، بحسب رسلان، لأن آلية عمل المصارف تعتمد على تشغيل الإيداعات لتستفيد من فرق الفائدة بين الإيداع والإقراض، وهذا الأمر حاليًا في سوريا غير موجود، خاصة أن العملة المحلية فقدت قيمتها بشكل كبير.
كما أن كثيرًا من القروض الممنوحة وكثيرًا من الأموال أصبحت ديونًا معدومة على المصارف، ولم تستطع تحصيل قيمتها.
وأضاف رسلان لعنب بلدي أن حكومة النظام السوري قد تستفيد من القروض الممنوحة بإعادة النشاط فقط للقطاع المصرفي، الذي كانت فعاليته محدودة خلال فترة الثورة السورية.
وأشار إلى أن القرار موجه للقطاع الزراعي والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، ويمكن القول إن القطاع الزراعي تأثر سلبًا في الفترة الماضية، وهو قطاع شبه مدمر في مناطق النظام نتيجة تقلبات أسعار الصرف، وغلاء المواد الأولية وخصوصًا الوقود، وضعف عمليات تصريف المنتجات.
ومن الممكن أن يسهم القرار إلى حد بسيط في دعم القطاع الزراعي، بسبب تخصيص القطاع بالتسهيلات الائتمانية المباشرة، التي يمكن من خلالها فتح اعتمادات مستندية أو فتح سحب على المكشوف أو إقراض ضمن حدود يحددها القرار، لكن مشاكل القطاع الزراعي أكبر من أن تُحل في مسائل إقراض على هذا المستوى.
أما بالنسبة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، فقد يكون دعمها جيدًا في حال الاستقرار والإقبال على فتح المشاريع، أما الآن فالقوة الشرائية لدى المواطنين شبه معدومة وبالتالي الأثر محدود، وخاصة بوجود “تشوه بنيوي بالاقتصاد السوري”، بحسب وصفه.
“قرار سليم” ولكن ..
وكان المصرف وجّه، في 11 من حزيران الماضي، جميع المصارف العامة والخاصة، بالتريث في منح التسهيلات الائتمانية والقروض بكل أشكالها وصيغها، بناء على توجيهات من رئيس مجلس الوزراء السوري، حسين عرنوس.
وقال مدير عام “مؤسسة ضمان مخاطر القروض”، مأمون كاتبة، حينها، إن القرار هو أمر مؤقت، ريثما يدرس المصرف المركزي ضوابط محددة، لتحديد أولويات منح القروض.
وجاء قرار التريث بعد أيام على تسجيل سعر صرف الدولار الأمريكي رقمًا قياسيًا أمام الليرة السورية، إذ سجل، في 8 من حزيران الماضي، 3175 ليرة، كأدنى انخفاض لليرة السورية في تاريخها، بحسب موقع “الليرة اليوم” المتخصص بأسعار الليرة والعملات الأجنبية.
الباحث الاقتصادي الدكتور فراس شعبو يرى أن قرار إيقاف منح القروض كان قرارًا اقتصاديًا “سليمًا” لضبط عمليات المضاربة بالعملة، وبالتالي فإن إعادة طرح القروض تعيد عجلة المضاربة من جديد، وتغيّر أسعار الصرف بشكل كبير.
وقال الباحث إن المضاربة أمر مستمر لا يمكن أن ينتهي، لأنه رغم الضوابط الأمنية والتشديد الأمني المفروض من قبل النظام على التعامل بالدولار الأمريكي، ما زال التعامل به موجودًا والمضاربة موجودة، والقروض سوف تدخل بالمضاربة، ولكن السؤال من الذي يقوم بالمضاربة؟
وأشار إلى أن تحديد المصرف المركزي مبالغ الاقتراض للمشاريع الصغيرة والمتوسطة والمشاريع الزراعية التي لا تحتاج إلى كثير من الأموال، كان محاولة لضبط مسألة المضاربة قدر المستطاع.
وبحسب رأيه، لا يمكن للمواطن الذي يقترض مبلغ مليونين أو ثلاثة ملايين ليرة سورية المضاربة، والذي يضارب هو الذي يقترض مئات الملايين.
وكانت وزيرة الاقتصاد السابقة في حكومة النظام السوري، لمياء عاصي، علّقت على القرار قائلة، إن “وقف الحصول على القروض بشكل كامل كتدمير البيت لأن جدارًا فيه تصدع”، مشيرة عبر صفحتها في “فيس بوك” إلى أن “وقف القروض والتسهيلات الائتمانية ربما يسهم في التخفيف من المضاربة على سعر الصرف”، وأنه يمكن أن يكون ضروريًا، إلا أن “اللجوء إلى تحويل القروض لخطوط ائتمانية هو الأفضل ويمكن أن يستمر لمدة طويلة”.
من جهته، أشار الاقتصادي عبد الرحمن رسلان إلى عدم تغير أي شيء في الظروف الاقتصادية، من حزيران الماضي إلى الآن، لذلك من الممكن الآن أن يعود المقترضون لتحويل القروض إلى عملة صعبة والمتاجرة بها وإجراء عمليات المضاربة، بدل استثمارها في القطاع الزراعي أو المشاريع الصغيرة، كما هو محدد لها.
ماهي التسهيلات الائتمانية؟
تمنح المصارف التسهيلات الائتمانية لتزويد المقترض (أفراد، منشآت، مؤسسات) باحتياجاته من الأموال اللازمة لتمويل النشاط، على أن يتعهد بسداد تلك الأموال في الوقت المحدد.
ويعتمد نوع ومدة التمويل على الحاجة المرتبطة به، فمثلًا لتمويل الإنفاق الرأسمالي يتم الحصول على قروض تمويل طويلة الأجل، ولتمويل العمليات التجارية يتم الحصول على تمويل قصير الأجل.
التسهلات الائتمانية المباشرة: وهي التسهيلات التي يمنحها المصرف على شكل أموال نقدية، بشروط ميسرة، مثل الجاري مدين، والقروض المخصومة، وتشمل التسهيلات التي يحل فيها المصرف محل العميل في تسديد التزامات مالية، مثل كفالات الدفع وكفالات السحوبات.
التسهيلات الائتمانية غير المباشرة: وهي التسهيلات التي تتضمن التزام المصرف بدفع أموال نقدية في حال تحقق شروط معينة، وتشمل الالتزامات خارج الميزانية، مثل الاعتمادات المستندية والكفالات المصدرة.
التسهيلات الائتمانية الدوارة: وهي تمويلات تمنح للتجار عن كل فاتورة شراء، لأجل بين ثلاثة وستة أشهر، بحيث يقدم التاجر فاتورة شراء بضاعة للمصرف، الذي يمنح بدوره قيمة تلك الفاتورة، ويمكن أن تتراكم الفواتير للتاجر لتصل إلى سقف التمويل المحدّد له من المصرف، وهنا يُخشى من ظهور عدم دقة في بيانات بعض الفواتير، أحيانًا، وبالتالي استخدام القرض الدوّار في غير غايته المعلنة.