مئة وسبعون عامًا على انتحار مدام بوفاري
إبراهيم العلوش
بعد 170 عامًا على انتحار مدام بوفاري، انتحرت ميساء في مخيم “أطمة”. اشترت ثلاث حبات غاز وعادت إلى منزلها الذي أخذوا منه أولادها، كان سمّ الفئران الذي تجرعته شديد المفعول، مثل السم الذي تناولته مدام بوفاري قبلها. ترى ما الذي يجمع بين هاتين المرأتين رغم تباعد الأزمان بينهما.
المعلمة ميساء، كما كتبت عنها الصحفية حباء شحادة في عنب بلدي، كانت تعيش وسط منطقة مكتظة بالنازحين وتختنق باحتياجاتهم التي تدفعهم إلى المهالك، فهم قد خسروا بيوتهم، وأرزاقهم، والاستقرار الذي كانوا يتعايشون معه قبل هذه الحرب الظالمة التي تمزق الشعب السوري. وكانت ميساء تعاني من حياة عائلية مضطربة سرقت منها أولادها، وسلّمتها لليأس.
الفرنسية مدام بوفاري انتحرت بعد حوالي 60 عامًا من انتصار الثورة الفرنسية، أي في حوالي العام 1850 أو بعده بقليل، وكانت المرأة الشابة قد انتحرت بتجرع السم الذي اشترته من الصيدلية أيضًا لتنهي حياتها التي كانت مهددة بالحياة العائلية الفاشلة وبالديون، وبارتطام روحها بجدران الحياة القاسية كما حدث مع ميساء المعلمة السورية في مخيم اللاجئين.
لا نعرف كثيرًا عن معاناة ميساء الشخصية، ولا عن اللحظات الأخيرة التي تجرعت فيها السم القاتل، وبينما وثّق الكاتب غوستاف فلوبير كل دقائق مشاعر إيما بوفاري، وكل خلجات روحها، واستعرض طموحها في الحياة، وحلمها برجل مثالي تنتقيه وتحبه بدلًا من الطبيب الأرمل الذي تزوجها مستغلًا تيتمها بعد وفاة والدها الذي كان يعالجه، مرت ميساء في طرف مقال عن الانتحار في سوريا وبشكل عابر، وكأنها مجرد عيّنة من المنتحرين الذين أزرت بهم الحياة ودفعتهم إلى هذا المصير الأسود.
اليوم وبعد 170 سنة من انتحار مدام بوفاري تجد النساء في فرنسا في كل مكان، مديرات وعاملات، قانونيات، صانعات، معلمات ومساعدات اجتماعيات وطبيبات وسائقات، وهن غير آبهات بكل مقاييس الذكورة، ولا بهيبتها الآفلة في زمن التنوع الجنسي، وتنوع أنواع الزواج في فرنسا، فقائمة أنواع الزواج المكتوبة في الاستمارات الحكومية تحيّرك وقد تحتاج إلى فقيه بالقانون لتعرف أنواعها.
أما في بلادنا فلا تزال الأسطورة الذكورية تنتج أحكامها التعسفية وتفرض هيمنتها عبر مصادرة الدين ومصادرة الأعراف والتقاليد، بالإضافة إلى احتكار المال والعمل، لإبقاء الهيمنة بيد الرجل، وبالتالي الإدارة المطلقة له. وإن كان الأمر هذه الأيام لا يتجاوز السيطرة على كرتونات المساعدات، بسبب انقطاع العمل.
انتحرت إيما بوفاري لأنها لم تحقق ذاتها، بينما تنتحر النساء في بلادنا لأنهن محاطات بميليشيات من ذكور العائلة الذين يدعون أنهم يحمون أيقونات الشرف والنسب والسمعة، ومحاطات بميليشيات أخرى من شيوخ المخيم وبصغار المتعصبين الذين يحلمون بأن يكونوا “شرعيين” لدى هذا الفصيل أو ذاك، وتتدفق بحق النساء الأحاديث القاسية واتهامات التخوين وانعدام الأخلاق، والسفور والانحراف وما إلى ذلك من ألقاب بائتة ومكرورة الاستخدام إلى حد نشر الكراهية.
عاش غوستاف فلوبير الذي كتب عن إيما بوفاري في القاهرة وفي اسطنبول، ولكنه عندما عاد إلى فرنسا وكتب رائعته مدام بوفاري لم يأبه بالقيم الذكورية المتحجرة في الشرق، ولا حتى في فرنسا نفسها، وعندما صدر كتابه مدام بوفاري، أقيمت عليه دعاوى في المحاكم الفرنسية لأنه يشجع على الفجور، فمدام بوفاري لم تخضع لقدرها الزوجي وحاولت أن تبحث لها عن أفق آخر، ولكن فلوبير دافع عن إيما بوفاري وعن طموحها كإنسانة، وعن مشاعرها التي اختلطت بمشاعره الشخصية حتى صاح بهم أخيرًا – أنا إيما بوفاري.. أنا إيما بوفاري!
المرأة السورية اليوم تقع تحت حملين، حمل العسف الذكوري ببعديه العائلي والديني، وحمل العوز والتشرد، وتتهدد أنوثتها بالزعامات الذكورية التي تحاول سلبها جسدها تحت ضغط الحاجة أو تحت ضغط الفتاوى المفبركة، والتي تجعل من مستثمريها فحولًا يتذوقون كل أنواع أجساد النساء ولا تعسر عليهم فتاة صغيرة أو كبيرة أو حتى عجوز مهجورة.
وكان لـ”داعش” وللتنظيمات الدينية المتطرفة دور كبير في استغلال النساء في مخيمات النزوح، واستغلال حاجاتهن وحاجات عائلاتهن، وكان الأمير أو أي حامل سلاح لا يقبل بامرأة واحدة، وأحيانًا لا تعرف المرأة إن كان زوجها متزوجًا واحدة غيرها، ناهيك عن إخفائه اسمه وعنوان أهله في البلد الذي أتى منه، فهو يلتحف متخفيًا بأحد أسماء الصحابة، ويضاجع النساء تحت غطاء الاستغلال الديني والاستغلال المادي مثله مثل أي طاغية صغير في مخابرات النظام أو في ميليشياته.
ولا يظنن أحد أن فرنسا بلد مثالي للمرأة، ففي كل ثلاثة أيام تموت امرأة واحدة من العنف الذكوري، وهذا ما دفع الرئيس ماكرون للقول إن هذا “عار كبير”.
وتتعرض النساء الفرنسيات للتحرش الجنسي، وتجد في الحدائق وفي المتنزهات أرقام هواتف لمساعدة النساء اللواتي يتم التحرش بهن، ولكن النساء رغم ذلك ماضيات في انتزاع مكانتهن ومصممات على الوصول إلى تحقيق ذواتهن، وهن لا يبحثن عن الانتحار كما فعلت إيما بوفاري قبل عقود، بل يحاولن انتزاع ما يحق لهن في القانون الفرنسي غير آبهات بكل القيم التقليدية التي قد يُشتم منها تكريس العبودية للذكور.
إيما بوفاري انتحرت من أجل تحقيق ذاتها الضائعة، أما ميساء فقد انتحرت حزنًا على أطفالها، وغابت عن طلابها في مدرسة اللاجئين بأطمة، وفي نفس الوقت تتزايد نسبة الانتحار بين نساء المخيمات، ورغم ذلك يستمر تبجح السلطات الذكورية بكل ما لديها من فتاوى مزيفة، وبكل ما لديها من سلطات مطلقة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :