نظرة سريعة على محكمة العدل الدولية في ضوء الخطوة الهولندية

  • 2020/09/23
  • 3:02 م

معرض صور ضحايا التعذيب السوريين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك- اذار 2015 (CNN)

يوسف وهبه

مدير وحدة الدعم بالقانون الدولي في البرنامج السوري للتطوير القانوني

تعتبر محكمة العدل الدولية “محكمة العالم”، وهي الجسم القضائي الأساسي للأمم المتحدة. اختصاصها يتمثل في دورين أساسيين: معالجة الخلافات القانونية بين الدول من خلال أحكام قضائية، وإصدار آراء استشارية بخصوص أسئلة حول القانون الدولي. لا يقع ضمن اختصاص المحكمة معالجة قضايا على المستوى الفردي، وبمعنى آخر ليس من اختصاصها تنفيذ القانون الجنائي الدولي وأحد مبادئه الأساسية المسؤولية الجنائية الفردية. هي محكمة تعنى فقط بالشكاوى بين الدول أعضاء الأمم المتحدة. ولكن المحكمة تتناول مواضيع جنائية، مثل موضوع التعذيب، من باب انتهاك الدول لالتزاماتها بموجب المعاهدات المصادقة عليها وبما يشكل أساسًا لما يعرف بالخلاف القانوني بين دولتين.

في مثل هذه الحالة من الخلافات القانونية، لا ينحصر الأمر باعتباره يتناول علاقات ثنائية بين دولتين، ولكنه يتعلق بواجبات الدولة المنتهكة تجاه كافة الدول الأطراف الأخرى في المعاهدة، وواجب تلك الدول في التصدي لهذه الانتهاكات ووضع حد لها.

وليس لمحكمة العدل الدولية أي دور في إضفاء أو نزع الشرعية عن أي دولة أو نظام في العالم حيث أن شرط العضوية فيها للدول الأعضاء فيها أصلًا. واللجوء إليها لم يكن يومًا وليس معنيًا به أن يكون في سبيل شرعنة أو عدم شرعنة أي كيان. وهذا ينطبق على كافة آليات المحاسبة من خلال الهيئات الدولية: فلا تعتبر إحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية تكريسًا لشرعية الحكومة السورية، وكذلك الأمر بالنسبة لعمل لجنة التحقيق الدولية والآلية الدولية المحايدة وتفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية في المحاكمات الجارية في بعض الدول. إذا كان كل لجوء إلى مسار دولي للمحاسبة بأشكالها المختلفة سيعتبر تكريسًا لشرعية الحكومة السورية، فالسؤال المطروح: ما هو المسار الذي يجب انتهاجه؟ على العكس، فإن أي من مخرجات هذه المحكمة سيكون بمثابة تهديد لهذه الشرعية خاصة وأن الاستناد سيكون إلى لغة أعلى محكمة دولية وذلك بدون شك أقوى وأكثر تأثيرًا من لغة تقارير لجنة التحقيق، كمثال على أهميتها طبعًا. في هذا السياق لقد أكدت المحكمة مرارًا أن أية اعتبارات سياسية تحيط أو تؤثر أو تتأثر بالإحالة إلى المحكمة أو بقراراتها أو آرائها لا تعتبر ذات صلة على الإطلاق باختصاصها، وورد ذلك على سبيل المثال في الرأي الاستشاري بخصوص تفسير الاتفاقية بين منظمة الصحة العالمية ومصر عام 1980؛ وفي رأيها بخصوص قانونية التهديد باستخدام الأسلحة النووية عام 1996.

أما بخصوص الإلزام، فقرارات مجلس الأمن ملزمة، ولا داعي للتذكير أنها ليست بالضرورة تطبق دائمًا! فهل هذا يعني عدم السعي لقرارات مجلس الأمن؟ إضافة إلى ذلك، إن إقدام دولة على هذه الخطوة هو أمر له تأثيراته ومعانيه على مستوى السياسة بشكل كبير. لقد أبعد هذا الموقف الموضوع من مجرد مشكلة سورية إلى مشكلة دولية مع الحكومة السورية. فهذا الموقف من المفترض على مستوى السياسة والمناصرة للقضية أن يكون عامل ترحيب ودعم كونه يضيف إلى موقف الضحايا وحججهم نقطة قوة إضافية تشكل سابقة في تكريس حقيقة وحجم الانتهاكات من قبل أعلى جسم قضائي دولي.

لقد لعبت محكمة العدل الدولية دورًا بالغ الأهمية على مستوى تطوير القانون الدولي سواء من خلال قراراتها القضائية أو آرائها الاستشارية، كما ساهمت في بعض السياقات الأخرى، من خلال التوظيف الفعال لقراراتها، في تحقيق إنجازات على مستوى بعض الشعوب والأمم. كمثال، تجدر الإشارة إلى تجربة ناميبيا التي استطاعت توظيف سلسلة من الآراء الاستشارية من محكمة العدل الدولية في مسعاها للاستقلال عن جنوب إفريقيا منتصف القرن الماضي. كذلك فيما يتعلق بالرأي الاستشاري للمحكمة حول التبعات القانونية لتشييد جدار الفصل في فلسطين، لقد بات هذا الرأي، رغم كونه رأيًا استشاريًا غير ملزم، مرجعًا أساسيًا في القانون الدولي ومصدرًا أوليًل في جهود المناصرة والعمل الحقوقي والسياسي الفلسطيني. حتى فيما بين أكثر الدول عداءً: الولايات المتحدة وإيران، تعتبر قضية الطاقم الدبلوماسي والقنصلي الأمريكي في طهران من أشهر القضايا التي عالجتها المحكمة.

ربما من أهم نقاط قوة محكمة العدل الدولية أنها تشكل آلية محاسبة فريدة من نوعها كونها تتعامل مع انتهاكات القانون الدولي من منطلق مسؤولية الدولة ككيان وليس من خلال المسؤولية الفردية. هذه المحاسبة لا تنفي ولا تلغي ولا تحل محل باقي أنواع أو أشكال المحاسبة وفي مقدمتها العدالة الجنائية القائمة على المسؤولية الفردية. وبالتالي فمن وجهة نظر سياسية، فإن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية قد يحقق إدانة ومحاسبة بشكل ما للحكومة السورية ككيان بناء على سياسته في الانتهاك الممنهج. من الممكن أن تشكل إجراءات محكمة العدل الدولية وقراراتها قاعدة قوية جدًا على المستوى القانوني وعلى مستوى الأدلة والخلاصات وكذلك على المستوى السياسي لتفعيل وتعزيز جهود المحاسبة الجنائية القائمة حاليًا، وهي دون شك ستكون عامللًا مساهمًا في دعم أفق جهود محاسبة أوسع وعلى نطاق دولي. إن محكمة الجنايات الدولية تستهدف الانتهاكات الأكثر فداحة وتسعى إلى محاكمة الأفراد الذي يشكلون أعلى مستوى من المسؤولية عن هذه الانتهاكات وهذا واضح في مقدمة نظام روما المؤسس للمحكمة، وأحد مبادئها الأساسية الصفة التكاملية مع الإجراءات القضائية الوطنية.

تمارس محكمة العدل الدولية اختصاصها في حال اتفقت دولتان على اللجوء إلى المحكمة لتسوية خلاف قانوني وبكلمات أخرى حين تلجأ دولة إلى المحكمة وتوافق الدولة الأخرى على اختصاص المحكمة، إذا كانت الدولة قد منحت سلفًا المحكمة الصلاحية والاختصاص وفقًا للمادة 36 (2) من ميثاق المحكمة، أو من خلال مواد معينة في بعض معاهدات حقوق الإنسان أو سواها والتي تنص صراحة على إحالة الخلاف بشأن مواد هذه المعاهدة إلى محكمة العدل الدولية الأمر الذي لا يتطلب موافقة الدولة المشتكى بحقها.

الخطوة الهولندية اليوم هي توظيف للخيار الثالث من خلال تفعيل المادة 30 (1) من اتفاقية مناهضة التعذيب والتي تلزم الدول الأطراف بمعالجة خلافاتها بخصوص تفسير أو تطبيق المعاهدة من خلال التفاوض أولًا، والتحكيم ثانيًا، وإحالة الأمر إلى محكمة العدل الدولية في حال فشل الخيارين الأولين. وبالتالي فإن اللجوء إلى المحكمة يتم من خلال موجبات تفرضها معاهدات حقوق الإنسان وليس مرتبطًا بالتعريف المبسط أو العام لصلاحيات المحكمة.

وبالتالي فإن الحديث عن عدم توفر اختصاص لمحكمة العدل الدولية بخصوص قضية التعذيب هو غير دقيق، لأن نص المادة 30 (1) من اتفاقية مناهضة التعذيب واضح وهو يتعلق بتطبيق المعاهدة وهو ما يعني انتهاك التزاماتها بموجبها. في القضية ما بين بلجيكا والسينغال اعتبرت المحكمة أن عضوية أي دولة في اتفاقية مناهضة التعذيب كافية لتلك الدولة لتتصدى لعدم التزام أي دولة أخرى بموجباتها في المعاهدة وذلك لاعتبار المحكمة أن هذا التوجه يعزز الجهد العالمي لمكافحة التعذيب ومحاربة الحصانة والهروب من العقاب. لقد اعتبرت المحكمة أن موجبات أي دولة في سياق هذه المعاهدة مرتبطة بأي دولة أخرى وبكل الدول مجتمعة.

وعلى الرغم من القيمة الرمزية والمعنوية الكبيرة لمثل هذه الخطوة، فليس دقيقًا أيضًا حصر هذه الخطوة في إطار هذه القيمة الرمزية فقط. من أهم ما يمكن أن ينتج عن إحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية هو صلاحية المحكمة أن تفرض تدابير عملية مؤقتة على أي طرف من أطراف القضية. يعتبر هذا الأمر أو الفرض ملزمًا ويجب تنفيذه كما أقرت ذلك المحكمة نفسها في القضية بين ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية المعروفة بقضية لاغراند في حكمها بتاريخ 27 من حزيران 2001.

فرض هذه التدابير من قبل محكمة العدل الدولية وفقًا للمادة 41 من ميثاق المحكمة يلزم الدولة المستهدفة باتخاذ خطوات معينة لضمان الحفاظ على حقوق الطرف الآخر المتضرر. يمكن للدولة المتقدمة بالشكوى للمحكمة أن تضمن في دعواها طلبًا المجموعة من هذه التدابير الطارئة. تعتبر قضية غامبيا ضد ميانمار أحدث مثال حي في هذا السياق حيث طالبت غامبيا أن تفرض المحكمة مجموعة من التدابير الطارئة والسريعة على ميانمار لحين البت في القضية والتي كانت مرفوعة في سياق مشابه من خلال معاهدة حظر الإبادة الجماعية. لقد طالبت غامبيا بالوقف الفوري للممارسات التي تنتهك أحكام المعاهدة وبمحاسبة المنتهكين عبر محكمة قادرة على ذلك بما يفتح الباب أمام المحاكم الجنائية الدولية. بالإضافة إلى ذلك طالبت غامبيا بالسماح الفوري بالعودة الآمنة والكريمة للروهينغيا وتمتعهم بكامل حقوق المواطنة وضمانات بعدم التكرار. في 23 من كانون الثاني 2020 فرضت المحكمة مجموعة من الإجراءات الفورية الملزمة على ميانمار وفي معظمها تعكس المطالب التي أوردتها غامبيا في دعواها.

في سياق معاهدة مناهضة التعذيب، يمكن لهولندا كجهة مدعية أو مشتكية أن تضمن كل التدابير التي تراها ضرورية، كما يمكن للمحكمة من تلقاء نفسها بناء على تقييمها للواقع أن تفرض الإجراءات التي تراها مناسبة كما هو وارد في المادة 75 من قواعد المحكمة.

تجدر الإشارة إلى أنه من الممكن أن يُفرض على الدولة أن تنصف الضحايا بما قد يشمل محاسبة المنتهكين وتعويض الضحايا كما طلبت غامبيا في سياق دعواها ضد ميانمار. يمكن أيضًا أن تفعيل المادة 14 من معاهدة مناهضة التعذيب والتي تلزم الدول الأطراف بتوفير نظام قانوني فاعل يوفر للضحايا وعائلاتهم متطلبات الإنصاف الفعال ومن ضمنها التعويض الذي ليس بالضرورة أن يكون ماديًا فقط وكافة متطلبات إعادة التأهيل. لا شك أن مثل هذا الأمر مازال يخضع لجدل قانوني واسع يتعلق بالسؤال إن كان يمكن لمحكمة العدل الدولية أن تحكم لطرف ثالث (هولندا في هذه الحالة) بحق الضحايا من دولة أخرى (سوريا) بالإنصاف والتعويض، لأن هذا الحق ملك للضحايا أنفسهم. ولكن تبقى وجهة نظر المحكمة في سوابق قضائية سابقة فيما يتعلق بالعلاقة الطردية ما بين حق الأفراد وحق الدول المتضررة والتزامات الدولة المنتهكة جديرة بالاعتبار كي تكون مدخلاً لمثل هذا المطلب في حال قررت هولندا إدراجه.

هناك أمر في غاية الأهمية أن محكمة العدل الدولية خلال نظرها في القضية ستنظر في الحقائق والأدلة وتبت فيها، وبالتالي فإن اعتماد كل هذا الجهد التوثيقي للمنظمات السورية واستخلاص النتائج منها من خلال أعلى محكمة دولية بدون شك سيفتح آفاقًا أوسع وقد يؤسس أرضية لا يمكن محاججتها من قبل الحكومة السورية وحلفائها كما يفعلون عادة مع مخرجات هيئات أخرى كلجنة التحقيق الدولية مثلاً.

في نقطة أخيرة، وبالعودة إلى اختصاص محكمة الجنايات الدولية، ومطالبة هولندا بالتوجه إليها بدلاً من محكمة العدل الدولية، تجدر الإشارة إلى أن انطباق اختصاص محكمة الجنايات الدولية بخصوص سوريا فيما يتعلق بموضوع اللاجئين قد تم العمل عليه بشكل مكثف، ومن قبل الزملاء في غيرنيكا 37 أيضًا وفي سياق يوفر أدلة سياقية وحسية أكثر من السياق الهولندي: الأردن. إن جريمة الترحيل تتطلب عدة عناصر مهمة وبالغة التعقيد وأهمها على الإطلاق عامل النية الواعية (حسب المادة 30 من نظام روما) والمحددة أو الموجهة نحو ترحيل السكان إلى خارج الحدود الدولية وباتجاه الدولة المتضررة. تنظر المحكمة حالياً في هذا السياق باحتمالية انطباق اختصاصها فيما يتعلق بالترحيل المتعمد المحتمل للمدنيين باتجاه الأردن (دولة عضو في نظام روما). ولكن، فيما يخص هولندا، فالقضية يتم النظر فيها ربطًا بسياق أكثر قربًا وأقوى لجهة الحجة السياقية والقانونية، فما فائدة توجه هولندا لمحكمة الجنايات الدولية في إطار نفس الجريمة في حين أن فرص نجاحها في إثبات النية الموجهة نحو ترحيل السوريين إلى هولندا ضعيفة جدًا؟

يجب دائمًا أن تكون هناك إدارة موضوعية وواقعية للتوقعات، وبالتالي ليس من مصلحة ضحايا التعذيب في سوريا سوى توضيح المخرجات المتوقعة بتفاصيلها، وعدم تناول الخطوة الهولندية من منطق الدفاع أو الهجوم المستميتين. مما لا شك فيه أن تفعيل اختصاص محكمة العدل الدولية سيكون سابقة هامة على كافة الصعد القانونية والسياسية، وإن كانت التساؤلات بخصوص تنفيذ قراراتها مشروعة، ولكن لا يجب إغفال حقيقة أن الإلزام القانوني لا يعني بالضرورة في الواقع الإلزام الفعلي. ويبقى الرهان على كيفية توظيف والاستفادة من مخرجات هذه المحكمة إلى أبعد حد.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي