صالح ملص – زينب مصري
“كي لا ينام أطفالي عطشى”، كلمات برر بها خالد، من أبناء محافظة السويداء، استدانته المال لشراء مياه الشرب، بعد انقطاعها عن منزله منذ شهر حتى الآن.
إلى جانب صعوبة تأمين متطلبات حياة أسرته اليومية، يعاني خالد، وهو موظف في مديرية التربية وأب لثلاثة أطفال، من صعوبة توفير مياه الشرب، ولا يكفيه الدخل الوارد من عمله الإضافي ليلًا، ما اضطره لاقتراض المال لتأمين المياه.
على اختلاف المناطق التي يقيمون فيها، واختلاف الجهة المسيطرة عليها، سواء كانت المعارضة السورية المدعومة من تركيا في الشمال الغربي، أم المناطق الواقعة تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” في الشمال الشرقي، أم بقية المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، يفتقر 15.5 مليون سوري إلى المياه النظيفة، والصرف الصحي الآمن.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، مع باحثين ومختصين، أزمة المياه التي يعيشها المواطنون في مختلف المدن السورية، والتي عصفت، في آب الماضي، بسكان مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا.
عطشى في كل الجغرافيا السورية
ما الأسباب؟
تشهد محافظة السويداء، جنوبي سوريا، شحًا كبيرًا في مياه الشرب منذ عدة أشهر، ويحمّل الأهالي مسؤولية المشكلة لمؤسسة المياه التي تتبع لها السدود المائية، كـ”سد الروم” بمنطقة ظهر الجبل، بالإضافة إلى الآبار التي تغذي منازل المواطنين في المحافظة.
لكن مصدرًا في مؤسسة المياه بالسويداء (تتحفظ عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية)، أوضح لعنب بلدي أن أسباب الأزمة الأخيرة هي تعطل عدد من الآبار التابعة للمؤسسة التي تغذي العديد من قرى و بلدات المحافظة، بالإضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي المتكرر عن هذه الآبار .
بينما قال متطوع في فرع منظمة “الهلال الأحمر” بالمدينة، إن المنظمة قدمت مولدات كهربائية لعدة آبار في المحافظة ليتم تشغيلها عند انقطاع التيار الكهربائي.
“أبو طارق”، مواطن من سكان منطقة شهبا شمالي السويداء، لم يجد المبررات التي قدمتها مؤسسة مياه الشرب لانقطاع المياه مقنعة، واعتبر أنها تؤكد اتهامات المجتمع المحلي لها بالإهمال و عدم وقوفها عند مسؤولياتها تجاه المواطنين.
واستنكر “أبو طارق” تأخر المؤسسة في إصلاح آبار المياه، وقال لعنب بلدي “ليس من المعقول أن بئر المياه الذي يغذي الآلاف من السكان يحتاج إلى أشهر وأحيانًا إلى سنوات ليتم إصلاحه، بالإضافة إلى عدم وجود آبار مياه احتياطية”.
ويتراوح سعر صهريج المياه بين خمسة آلاف ليرة (2.26 دولار تقريبًا) وثمانية آلاف ليرة (3.61 دولار تقريبًا)، ولا تستطيع شريحة كبيرة من المواطنين تحمل تكلفته، لأن الأسعار مرتفعة مقارنة بالدخل الشهري، إذ تحتاج الأسرة الواحدة إلى أربعة صهاريج مياه على الأقل خلال الشهر الواحد.
لا شبكات تغذي المنازل
من الجنوب وصولًا إلى الشمال السوري، يواجه محمد زيتون صعوبة في تأمين مياه الشرب النظيفة، لعدم وصول شبكة المياه إلى منزله، الكائن غربي قرية كفرعروق شمالي مدينة إدلب.
وعلى الرغم من تخصيص إحدى المنظمات العاملة في مدينة إدلب صهريج مياه شهريًا بشكل مجاني، للمنازل التي لا تصل إليها شبكة المياه، يُضاف عبء دفع تكلفة نقلها إلى الأعباء المادية التي يحملها محمد.
يكفي الصهريج عائلة محمد لمدة أسبوع، ويقدم إليه بشكل مجاني من منظمة “غول”، لكنه يدفع تكلفة نقله 30 ليرة تركية أسبوعيًا (الليرة التركية تقابل 290 ليرة سورية)، أي ما يعادل 120 ليرة تركية شهريًا.
يشتكي محمد من عبء المياه الذي يثقل كاهله، ويتخوف من عدم قدرته على شرائها بعد فترة، لعمله بشكل حر وقلة فرص العمل، وارتفاع أسعار المياه وغلاء تكلفة نقلها، إذ يصل سعر الصهريج بسعة 20 برميلًا إلى 30 ليرة تركية، بينما يصل سعر الصهريج بسعة 40 برميلًا إلى 60 ليرة تركية، في مناطق الشمال الغربي من سوريا.
تتوفر صهاريج المياه ولكن أغلبها تعمل مع منظمات، بحسب ما قاله محمد لعنب بلدي، كما أنه يجد صعوبة حتى بتأمين مياه الآبار الموجودة على طرفي القرية الشرقي والغربي.
صهاريج بديلة لشبكات المياه
كبديل لغياب شبكة المياه عن منازل ومخيمات النزوح المتوزعة على امتداد الشمال الغربي من سوريا، تنقل صهاريج المياه المستخرجة من الآبار المتوزعة في تلك المناطق، وتوصلها إلى السكان.
يعبئ محمد حازم، وهو مالك لصهريج بسعة 35 برميلًا، المياه من بئر غربي بلدة كللي، ليوصلها إلى منازل ومخيمات قرية كفرعروق، التي لا تصل إليها الشبكات.
وإلى جانب التكلفة التي يدفعها محمد وتبلغ 15 ليرة تركية مقابل الصهريج الواحد، يواجه صعوبات في عمله، تتمثل بالانتظار حوالي ساعة في دور أمام البئر، ووعورة الطرقات وخاصة طرق المخيمات، وارتفاع سعر المازوت.
مصدر المياه في الشمال هو الآبار، بحسب ما قاله محمد لعنب بلدي، سواء كانت تُنقل عن طريق الشبكات أم بالصهاريج، وتزود المنظمات الإغاثية في الشمال السوري المخيمات بالمياه بشكل مجاني، مشيرًا إلى أن سعرها يرتفع بسبب تكلفة النقل التي تزداد مع ارتفاع أسعار الوقود في الشمال.
خدمة بقدر الإمكان
عانى السوريون قبل اندلاع الثورة السورية من نقص كبير بالخدمات، وزاد نقص الخدمات في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا، كنوع من “عقوبة” فرضها النظام السوري على المناطق التي خرجت عن سيطرته، بحسب معاون وزير الإدارة المحلية والخدمات في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد المجيد آغا.
آغا قال في حديث إلى عنب بلدي، إن المناطق الواقعة تحت إدارة الحكومة “المؤقتة” والمجالس المحلية، تعاني من نقص كبير بالتمويل وخاصة أغلب مشاريع البنى التحتية، من خزانات مياه وشبكات توزيع مياه ومضخات.
وأشار إلى أن البنى التحتية تعرضت بشكل مقصود عبر سنوات لقصف من قوات النظام السوري وحلفائه، دون مراعاة تحييدها، ما زاد الحاجة والمعاناة الإنسانية للسكان المقيمين والنازحين.
وكحلول لمعالجة أزمة المياه في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، تقوم الحكومة “المؤقتة” بالتشارك مع المجالس المحلية والفعاليات الشعبية بسد جزء من النقص الكبير لمياه الشرب، عبر حفر آبار ارتوازية، لأن النظام السوري و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) يقطعان المياه عن تلك المناطق.
كما تقيّم الحكومة “بشكل متواصل” احتياجات المياه لكل المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وتتواصل مع الجهات أو المنظمات الدولية، كـ “صندوق الائتمان لإعادة الإعمار”، لمحاولة تأمين احتياجات المياه.
وتدرس الحكومة بالتعاون مع المجالس المحلية، في الوقت الحالي، مشروعي مياه شرب في منطقة عفرين، ومشروعًا آخر في مدينة جرابلس، لكن النقص كبير والمنطقة بحاجة كبيرة إلى المياه، وفقًا لمعاون الوزير.
وحمّل آغا النظام السوري مسؤولية قطع المياه، منذ ما يقارب أربع سنوات، عن حوالي 500 ألف نسمة، في مركز مدينة الباب والراعي واخترين والقرى التابعة لها، شمالي سوريا، على الرغم من مناشدات الأهالي، عبر منظمات دولية وإغاثية مثل منظمة “الهلال الأحمر”، لعدم قطعها، إذ إن 250 ألف نسمة يقطنون في مدينة الباب ومدينة بزاعة، والمدينتان تشربان من مضخات عين البيضا، الواقعة جنوبي مدينة الباب على بعد 12 كيلومترًا.
الموارد المائية مسيّسة في سوريا
وسيلة لكسب الولاءات وقوة ضغط في التسويات
منذ أن وصل الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، إلى السلطة في 1970، قامت الحكومات السورية المتعاقبة بعد ذلك بالتحكم بالمياه واستخدامها من أجل مكاسب سياسية. ويستخدم النظام السوري الموارد المائية، بحسب تقرير نشره “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، لشراء الولاءات وإرهاب معارضيه بهدف القمع والسيطرة على الشعب.
ووفقًا للتقرير فإن “الأسر التي تتمتع بصلات قوية مع النظام، وتعيش في منازل بقرب دمشق، تتمتع بحرية أكبر لحفر الآبار بشكل مستقل ودون تسجيل. حوالي 87% من آبار المياه في دمشق غير مرخصة، بينما تصل نسبة الآبار غير المرخصة خارج دمشق إلى 38% فقط. إضافة إلى ذلك، فإن المتطلبات القانونية تطبق بشكل صارم خارج دمشق. بينما تم تنظيم 25% من الآبار غير القانونية خارج دمشق من قبل الحكومة في الفترة ما بين 1998 إلى 2000، ولم يتم تنظيم سوى 11٪ من الآبار غير القانونية بداخل منطقة دمشق في ذات الفترة”.
وفسر التقرير هذه الفوارق، بحسب دراسة استند إليها تعود لعام 2006، أعدها الصحفي اللبناني إيلي الحاج، بأنه “كلما كانت الأسرة أكثر ولاء واتصالًا بالنظام، تمتعت بحرية أكبر لحفر الآبار والحصول على المياه”.
وتعامل النظام السوري على مر العقود الماضية مع الموارد المائية باعتبارها قضية أمن قومي، وفق دراسة تحليلية لواقع الموارد المائية في سوريا، نشرها الباحث في مركز “عمران للدراسات” محمد العبد الله عام 2015، إذ لم تكن البيانات الإحصائية الصادرة عن الدوائر الحكومية في سوريا بشأن الموارد المائية، منذ تسلّم حزب “البعث” للسلطة، إلا أداة يستخدمها النظام لنهب موارد الشعب، “بعد أن قام النظام بتجنيد هذه البيانات ضمن منظومته الأمنية، ليتم رفعها وخفضها وفق مشيئته، مستخدمًا إياها غطاء يخفي وراءه أجندته السياسية والاقتصادية”.
وبحسب الدراسة، فإن عدم الشفافية في إصدار بيانات إحصائية وفق المعايير المهنية الدولية لنشر البيانات والإحصائيات، أسهم في تكوين صورة ضبابية للمفاصل الأساسية للاقتصاد الوطني.
ويدرك النظام السوري في رؤيته المستقبلية أهمية الموارد المائية للحفاظ على وجود نفوذه في سوريا، وفق ما قاله الباحث محمد العبد الله، لعنب بلدي، ففي حال عدم تمكنه من السيطرة على كامل الأرض السورية، رسم مشروعه عام 2015 بتحديد مناطق النفوذ الأكثر أولوية لديه مع حلفائه، تحت مسمى “سوريا المفيدة”، التي لا تزيد على 25% من مجمل مساحة البلد.
ووفقًا للتصور المقترح لـ“سوريا المفيدة”، فسيكون حوضا العاصي والساحل وجزء من حوض بردى ضمن المشروع، بحيث يضمن النظام موارد مائية كافية تفي باحتياجاته المستقبلية، وفق العبد الله، إلى جانب استفادته من كونه المنفذ الوحيد على البحر المتوسط لما سيمنحه من ميزة استراتيجية كبيرة للاستفادة من الموارد الطبيعية الوفيرة في منطقة الساحل وسهل الغاب، بالإضافة إلى استخدامها قوة في أي مفاوضات أو تسويات سياسية مستقبلية.
ولم تكن “سوريا المفيدة” التي اختصها النظام السوري لنفسه كمقترح، المشروع الوحيد الذي يعي أهمية الموارد المائية وتوظيفها سياسيًا في حاضر أو مستقبل سوريا، بل ركزت جميع الجهات المتنازعة في سوريا جهدها للسيطرة على الموارد المائية واستخدامها كوسيلة تمكنها من الضغط العسكري والاقتصادي والسياسي لتدعيم نفوذها في المناطق الخاضعة لكل من تلك الجهات، وفق رأي الباحث العبد الله.
وجاء هذا التركيز على المياه من دون أن تأبه تلك الجهات بالتبعات السلبية التي قد يحدثه توظيف الموارد المائية في النزاع القائم، بالإضافة إلى تعمد بعض هذه الجهات الإضرار بالموارد بهدف إحداث “انزياحات ديموغرافية للسكان من بعض المناطق وإجبارهم على النزوح إلى مناطق أخرى”، وفق العبد الله، الذي أضاف أن ذلك يظهر جليًا لدى سياسة النظام السوري الذي لجأ إلى تعمد الإضرار بهذه الموارد بشكل خاص في المناطق المناوئة لسلطته عبر الأعوام الماضية.
ففي محافظة درعا، قامت قوات النظام عام 2016 بحرمان السكان والأراضي الزراعية من المياه القادمة من جبل العرب، بعد أن بنت الحكومة سدودًا تجميعية وسطحية في محافظة السويداء، أدت إلى جفاف العديد من السدود التجميعية الأخرى، كسد “درعا الشرقي”، أكبر سدود المنطقة التي تصل سعته الاستيعابية إلى 15 مليون متر مكعب، ويغذي مساحات واسعة من المنطقة الشرقية لمدينة درعا تبلغ عشرة آلاف دونم.
وفي محافظة دمشق، قطع النظام السوري مياه الشرب عن مخيم “اليرموك” جنوبي العاصمة، في أيلول 2014، وحوّل مياه الصرف الصحي إلى حي جوبر المحاصر حينها، “كوسيلة عقاب جماعي لأهالي الحي”.
السيطرة العسكرية على المرافق المائية في الشمال
أزمات في خزان سوريا المائي
يبلغ عدد الأنهار في سوريا 16 نهرًا مع روافدها، ويعد نهر “الفرات” أكبرها، ويعتبر بحسب “يونيسف” المصدر الوحيد لمياه الشرب لأكثر من مليوني شخص لكامل مدينة حلب والمناطق الشرقية من المدينة.
“نكفي أن نعلم أن سد الفرات وحده كان يوفر 2.5 مليار كيلوواط ساعي في كل سنة”، يوضح الباحث السوري مهند الكاطع في حديثه إلى عنب بلدي أهمية سد “الفرات” غربي محافظة الرقة شمال شرقي سوريا، الذي يعتبر أكبر مستودع مائي في سوريا، وثاني أضخم السدود العربية بعد “السد العالي” في مصر.
ويقع سد “الفرات” تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” العاملة في شمال شرقي سوريا، والمتهمة من قبل المعارضة السورية المدعومة تركيًا “باستخدام المياه بشكل ممنهج كسلاح في الصراع”، وفق ما قاله معاون وزير الإدارة المحلية والخدمات في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد المجيد آغا، لعنب بلدي.
لكن من جهته، اتهم رئيس هيئة “الاقتصاد والزراعة” التابعة لـ” الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، سلمان بارودو، في حديث سابق مع عنب بلدي، الفصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا باستخدام المياه “للضغط على الإدارة الذاتية” و”إفشال مشاريعها التنموية في المنطقة”.
واستند بارودو بهذا الاتهام إلى بيان لـ89 منظمة مدنية وحقوقية نددت بقطع تركيا والمجالس المحلية التابعة لها المياه عن المدنيين للمرة الثامنة على التوالي، واستخدام المياه كـ”ورقة ابتزاز”.
ولدى الكاطع مخاوف من تبادل تلك الاتهامات المتكررة، التي لا ترقى إلى إيجاد حلول لإدارة أزمة المياه، إذ إن استخدام سلاح قطع المياه المباشر وغير المباشر في مدن شمال شرقي سوريا كأسلوب من أساليب الحرب يرقى إلى “جريمة حرب”، وفق ما قاله، واصفًا إياه بـ”العمل الإجرامي” غير المقبول الذي يهدد فقط حياة الأفراد، الذين تقع مسؤولية احترام حقوقهم على عاتق جميع أطراف النزاع، من دون أي استثناء.
ووفقًا لما قالته ممثلة “يونيسف” في سوريا، هناء سنجر، فإن “جميع الأطراف استخدمت المياه كسلاح في الحرب السورية”.
المياه من أبرز أزمات السوريين
تهديد للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي
تتوالى أزمات السوريين المعيشية منذ عام 2011، وتجتمع لتشكل ثقلًا يحملونه على أكتافهم، فمع غلاء المنتجات وارتفاع أسعارها، وتدهور قيمة الليرة السورية وانخفاض الدخل، وعدم القدرة على الوصول إلى الوقود، يفقد المواطنون قدرتهم على تأمين المياه.
ومع تراجع حصة الفرد من الموارد المائية المتاحة، بسبب الدمار الكبير الذي لحق بالموارد وببنيتها التحتية، أصبحت القدرة على توفير المياه تمثل التحدي الأبرز في حياة المواطن السوري.
ويكمن التحدي بتوفير المياه النظيفة الصالحة للاستخدام، أو توفير المقدرة المادية للحصول عليها، مع الارتفاع المتواصل لمعدلات الفقر وقلة ذات اليد، بحسب الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قال العبد الله إن الأضرار البالغة التي تعرض لها القطاع المائي، أضعفت قدرة الجهات المسؤولة على تلبية الطلب على المياه، وعرقلت مشاريعها المائية.
كما أضعفت قدرتها على معالجة ظاهرة تلوث المياه، مع الانقطاع المتواصل في التيار الكهربائي وصعوبة توفير الوقود اللازم لمحطات المياه والصرف الصحي، إضافة إلى الاعتداءات المتتالية على شبكات المياه، والتمايز في تزويد المناطق بالمياه تبعًا للنفوذ السياسي والعسكري المسيطر على المنطقة، كما في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري والمناطق الواقعة تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” شمال شرقي سوريا.
ويرى الباحث أن كل هذه العوامل وغيرها، في ظل تفاقم الظروف المعيشية للأفراد وارتفاع أسعار مياه الشرب في العديد من المدن والأرياف، ووجود نسبة كبيرة من السكان في سوريا لا يحصلون على مياه الشرب النظيفة بشكل منتظم، ستشكل تهديدًا فعليًا للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان في أماكن وجودهم، أو ستجبرهم على النزوح إلى أماكن أخرى بحثًا عن الوصول المستدام إلى كميات كافية من المياه بجودة مقبولة.
وانخفضت كمية المياه إلى نصف ما كانت عليه قبل عام 2011، بحسب تقرير للأمم المتحدة صادر في آب 2015، والتي وثقت أدلة على استخدام أطراف النزاع في سوريا لاحقًا المياه لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية، كما وثقت إلحاق الاشتباكات الحاصلة في المدن السورية الضرر بخطوط الأنابيب والبنى التحتية للمياه.
وتسهم الكهرباء والوقود في سوريا بزيادة تعقيد أزمة المياه، لأن غياب الوقود وانقطاع التيار الكهربائي عن معظم المدن السورية يعوق تشغيل العنفات والمضخات لإيصال المياه إلى الأهالي، ما يسبب بتوقفها لفترات طويلة.
وبعد سنوات من النزاع في سوريا، أصبحت مياه الشرب غير صالحة للشرب فعليًا، بسبب عدم معالجتها بشكل دقيق وصحي، لسوء الأوضاع على جميع الأصعدة لا سيما المالية، بحسب ما قاله الباحث الاقتصادي فراس شعبو لعنب بلدي، الأمر الذي ينعكس على المواطن السوري صحيًا واجتماعيًا.
كما صار الحصول على مياه الشرب، وفقًا لشعبو، عبئًا ماليًا بحد ذاته، ويكاد يشكل “كارثة” في بعض الحالات على الأهالي في مختلف المناطق السورية، خاصة في ظل ارتفاع الأسعار وتوقف الأعمال وانخفاض الدخل.
وأضاف الباحث أن العديد من الأهالي في الأرياف لجؤوا إلى حفر آبار كأحد الحلول لتوفير المياه، سواء للاستخدام الشخصي أم للاستخدام في مجالات الزراعة، ولكن هذه حلول فردية وليست حلولًا على مستوى الدولة.
وشهد القطاع الزراعي في سوريا انخفاضًا ملحوظًا في حجم الزراعات والإنتاج، نتيجة الحرب والنزوح وغياب الري لقلة المياه، وهو ما دفع كثيرًا من الأهالي لهجرة أراضيهم والإحجام عن زراعتها، بالإضافة إلى فترات جفاف مرت بها المنطقة أسهمت في توقف أو عدم تنمية الزراعة بشكل كبير، وتوقف إمداد المياه من قبل القنوات أو بعض الأنهار أو بعض القنوات الفرعية التي أنشئت في السابق، بحسب الباحث.
“فجوة مائية” يواجهها مستقبل المياه في سوريا
توصيات لسد العجز المائي
هناك حالة من عدم التأكد بشأن توفر الموارد المائية في سوريا مستقبلًا، ويرجع ذلك إلى متغيرات ستحددها لاحقًا تأثيرات التغير المناخي وسياسات إدارة المياه، وبالتالي سيكون لهذين العاملين تأثير واضح على التوفر المستقبلي للمياه في سوريا، فمن المتوقع أن يخفض التغير المناخي المياه السطحية والجوفية بمقدار 1300 مليار متر مكعب في عام 2050، وفقًا لدراسة حول التوفر المحتمل للمياه في سوريا، المنشورة في جامعة “لوند” السويدية عام 2011.
وهناك مؤشرات على حدوث “فجوة مائية” بسبب استنزاف المرافق المائية في النزاع القائم، والتلوث الكبير للموارد المائية الذي زاد منذ بداية 2011، وفق الباحث محمد العبد الله، بسبب التدمير الممنهج لهذه الموارد من قبل الجهات المتنازعة، واستغلال القوى العسكرية لهذه الموارد كسلاح ضد بعضها.
وبسبب تأثر البنى التحتية للمياه في سوريا، يُقدّر أن نصف إجمالي الطاقة الإنتاجية قد ضاع أو تلف، وفق العبد الله، بالإضافة إلى الآثار المحتملة على كل من السكان والتنمية المستدامة وعمليات إعادة الإعمار.
وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن الخسائر في قطاع المياه هي الأعلى، إذ بلغت 121 مليون دولار، كما أدى النزاع المسلح إلى مقتل ولجوء العديد من العاملين في قطاع المياه والصرف الصحي، وصار نحو ثلثي السوريين يحصلون على المياه من مصادر تتراوح درجة خطورتها بين المتوسطة والعالية، وانخفض معدل توفر المياه في سوريا من 75 ليترًا لكل شخص يوميًا إلى 25 ليترًا.
وبذلك فإن سوريا تواجه أزمة مياه حقيقية، وينبغي للأطراف المتنازعة أن تصبح أكثر تنبهًا للمخاطر التي يمكن أن تهدد المدن السورية جراء التراجع في كمية ونوعية الموارد المائية، وفق ما أوصى به العبد الله، وهي معنية بمعرفة واقع الثروة المائية لديها من حيث مخزونها وتنوع مصادرها وطرق استخدامها واسثتمارها لمصلحة المدنيين وليس لمكاسبها السياسية أو العسكرية.
ويجب على الجهات المعنية في سوريا تطبيق الإدارة المتكاملة في إدارة الموارد المائية، التي تشمل، بحسب العبد الله، العديد من النظم الفرعية المتمثلة بنظام إدارة الموارد المائية، ونظام إدارة خدمات المياه، ودعم القدرة على اتخاذ قرارات فاعلة لتحسين إدارة هذه الموارد وتعزيز الأمن الغذائي.
بالإضافة إلى أن زيادة التعاون الإقليمي بين البلدان المتشاطئة مع سوريا يمكن من خلاله التغلب على العجز المائي في بعض الأحواض، بعد التمكن من إحداث حل سياسي شامل للملف السوري.
وأوصى العبد الله بزيادة الاهتمام بمحطات تكرير ومعالجة المياه، من خلال التوسع في بناء المنشآت اللازمة لمعالجة مياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي، والعمل على رفع كفاءتها بالتعاون مع المنظمات الدولية المختصة، بالتوازي مع التركيز على الإطار القانوني المتعلق بالشأن المائي من خلال تطوير التشريعات واللوائح الناظمة لاستثمار الموارد المائية، وإحكام الرقابة على تطبيقها بشفافية، وتغليظ العقوبات على المخالفين.