“إن العيون التي يترصد بها السيد أتباعه، إنما هي التي يمنحونه إياها، والأيدي التي تنهال عليهم بالضرب لا يأخذها إلا من بين صفوفه… لا سلطة لسيّدهم عليهم إلا بهم، لذا يغدون بكل يسر شركاء اللص الذي يسرقهم والمجرم الذي يقتلهم، لم تُستعبد الشعوب إلا لأنها استسلمت للفساد وقبلت بالاستغباء”.
كتب إتيان دو لا بويسيه، مؤسّس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، مقالًا نشره في عام 1549 وكان في الـ18 من عمره فقط، تحدث فيه عن أسباب نشوء العبودية الطوعية وانتشارها بين طبقات الشعب.
ويُعتبر من أشهر مقالاته، وقد تحول بعد ذلك إلى كتاب بعنوان “العبودية المختارة” أو “مقال في العبودية الطوعية”.
واستغرب فيه علة الإذلال الذي يقدمه الناس لملوكهم، ويحكي عن السر الذي يدفع الجماعة إلى أن تخضع بإرادتها للفرد الذي لا يتميز بشيء سوى أنه كان من صلب أب منتمٍ للعائلة الملكية.
وكان المقال نُشر في الوقت الذي مرت فيه فرنسا بأزمة خانقة تميزت بالظلم والاستبداد.
وتحدث لا بويسيه عن الأنظمة المستبدة والملكيات الطاغية، وانتقد “عملية صناعة الطغاة”، داعيًا الشعوب إلى التمرد والعصيان، ورفض الانصياع للحكام حتى لو كلف ذلك حياتهم، إذ “لا يكفي أن نولد وحريتنا معنا، بل يجب علينا أيضًا أن نحميها”.
ويرى أن الطغاة لديهم السلطة لأن الشعب أعطاهم إياها، وقد تم التخلي عن الحرية مرة من قبل المجتمع وبقيت بعد ذلك متخلى عنها، وفضّل الشعب الرقّ على الحرية، والرضوخ إلى الهيمنة والانصياع.
وصنّف الكاتب الطغاة إلى ثلاثة أصناف: الأول يحكم لأن الشعب قد انتخبه، والثاني انتزع المُلك بقوة السلاح، والأخير جاءه المُلك بالوراثة.
وعن الصنف الأخير، الذي يعتبره الكاتب الصنف الأسوأ، يقول إن الذين ولدوا ملوكًا ليسوا أفضل من الصنفين الآخرين بوجه عام، لكنهم وقد نشؤوا في حضن الطغيان، إنما يرضعون مع الحليب طبيعة الطاغية، ويعاملون الشعوب كما لو أنها عبيد لهم بالوراثة، ويتصرفون بالمملكة كما لو أنها ميراثهم.
ويشرح لا بويسيه عن عاملين مهمين يخدمان قضية العبودية الطوعية، وهما الدين والخرافات، فهو ينظر إلى الدين كأداة في يد السلطة الملكية للتأسيس والاستئثار بالسلطة. فالسلطة الملكية تستعمل رجال الدين لإقناع المواطنين بخرافة “الحق الإلهي للعائلة الملكية” القادم من السماء السابعة، كما توظف الخطاب الديني لأجل التحكم في الغضب الجماهيري وانتهاج سياسة الإلهاء والتفرقة.
وفي علاجه للعبودية الطوعية قال الكاتب، إن الأمر يبدأ من تهديم قاعدة “هرم التسلط”، الذي هو السلسلة التي تجعل الحاكم في قمته معبودًا من طرف الرعية في قاعدته، أما ما بينهما فهم خدم البلاط ورجال الدين والإعلام والمستفيدون من الوضع والذين هم على تماس مباشر مع عامة الشعب.
لهذا يرى أن الحل يكمن في إعلان العصيان والتمرد والقطيعة مع هؤلاء، بشرط الشجاعة والإرادة الكاملة في تحمل كل العواقب لدفع الثمن كاملًا، لأن الشعب الذي أوجد المشكلة يملك حلها بنفسه، ويكفي أن يسحب هو قاعدته من الملوك ليسقطوا تلقائيًا، لأنه هو مصدر قوة هؤلاء الحكام أولًا وأخيرًا.
ولد الكاتب تيان دو لا بويسيه في مدينة سارلا الفرنسية في عام 1530 وتوفي في 1563، وهو كاتب وقاضٍ، ومؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وله عدة مؤلفات شعرية أيضًا.
وترجم الكتاب صالح الأشمر، ونُشر عن دار “الساقي” اللبنانية في 2016.