الروس يتحدثون عن تفعيل محادثات “جنيف” ويفعلون العكس

  • 2020/09/13
  • 12:00 ص

أسامة آغي

كلما ضاقت السبل بوجه مخططات روسيا حيال ملف الصراع السوري، يُخرجون من جعبتهم أسطوانتهم المشروخة، “تفعيل مفاوضات جنيف”، لكنهم في هذه المرة، أرسلوا الثنائي الاقتصادي/ السياسي بوريسوف ولافروف لإجراء ما يعرقل مفاوضات “جنيف” بين المعارضة السورية ونظام بشار الأسد، وما يعزّز هيمنة روسيا على ما تبقى من اقتصاد سوريا.

عرقلة مفاوضات “جنيف” أخذت مع زيارة الثنائي الروسي بعدًا واضحًا، تمّ التعبير عنه من خلال تصريحات وزير الخارجية الروسي في دمشق، سيرغي لافروف، إذ صرّح: “لا سقف زمنيًا لمفاوضات جنيف”، وهذا يعني أن المفاوضات ليست قاعدة الحل، بل ديكورًا، تتم خلفه عملية إعادة إنتاج النظام بصورة مواربة، تُرضي المجتمع الدولي، وتُبقي على أوسع مصالح روسية في سوريا.

محاولة الروس تثبيت رؤيتهم وأجندتهم للحل السياسي في سوريا لا تزال فعّالة، فهم لا يريدون للنظام السوري أن ينفّذ مضمون القرار الدولي 2254، ولا يثقون بنتائج تنفيذ هذا القرار من ناحية مصالحهم الواسعة في هذا البلد.

ولهذا كان البعد الاقتصادي لهذه الزيارة واضحًا، لجهة حمل يوري بوريسوف، نائب رئيس الوزراء الروسي، جعبة مليئة بمشاريع اقتصادية روسية، تتعلق بما بقي خارج سيطرتهم الاقتصادية في هذا البلد، كمحاولة التنقيب عن البترول والغاز في الساحل السوري، والسيطرة على شبكات الخلوي السورية، التي كان ابن خال رئيس النظام رامي مخلوف يحتكر أغلبية نشاطاتها.

حديث رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عند استقباله الوفد الروسي يكشف طبيعة هذه الزيارة، إذ قال إنه “حريص على تعزيز الاتفاقات الاقتصادية وصفقات الأعمال مع موسكو لمساعدة نظامه على تجاوز العقوبات التي تقوّض نظامه”، فالأسد هنا لا يملك غير تقديم مزيد من التنازلات المرغم عليها للروس، فالروس هم من حمى نظامه من سقوط أكيد، وهم لم يحموه لمجرد أنه صديق، فالسياسة مصالح لا صداقات، بل حموه ليدعوه واجهة، يتحكمون من خلفه بسوريا اقتصاديًا وسياسيًا وموقعًا جيواستراتيجيًا مهمًا، وحين حموه، كانوا يريدون استخدام الورقة السورية حتى أقصى حد ممكن فيها.

لهذا، ليس مفاجئًا أن يخرج بوريسوف ورقة مشاريع روسية في سوريا من جعبته، فهو يريد إعادة إعمار قطاع الطاقة الكهربائية، إضافة إلى إصراره على أن يكون أمر التنقيب عن البترول والغاز في الساحل السوري لمصلحة الشركات الروسية.

كذلك ليس غريبًا أن يصرح لافروف حول نفس الموضوع الاقتصادي، حيث قال: “بعض الدول والقوى الخارجية تحاول تمرير مخططاتها الخاصة، وخنق الشعب السوري باستخدام العقوبات الاقتصادية”. تصريحات لافروف هذه تندرج في سياق التعمية على الحقائق الموجودة على الأرض، التي سبّبها تدخل الروس في الصراع السوري لمصلحة بقاء نظام استبدادي، هم بحاجة إلى خدماته المختلفة.

الروس هم من دمّر المدن والحواضر السورية، وخرّب بناها التحتية، والآن يتشاطرون على العالم بالقول، إنهم يريدون إعادة إعمار سوريا، هذا الإعمار ليس مجرد إعمار لبناء متهدم، بل إعادة إعمار لنظام سياسي غير صالح للحياة خارج المنظور الروسي.

الروس يدركون أن تنفيذ القرار 2254 من قبل النظام السوري، لن يُبقيه في سدّة الحكم، ولهذا هم لا يرفضون مفاوضات “جنيف”، ولكنهم يعملون على تعطيلها وتسويفها وتفريغها من محتواها، لأنهم غير واثقين أن نتائجها ستحمي استثماراتهم وهيمنتهم على هذا البلد.

الروس يتحركون وينشطون سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا في لحظات محددة، تلف الوضع السياسي الأمريكي الحالي، حيث الإدارة الأمريكية مشغولة بالتحضير لانتخابات الرئاسة، ولهذا هم يريدون تفريغ فاعلية قانون “قيصر” عبر الالتفاف عليه في معادلة الصراع الداخلي في سوريا.

هذا الالتفاف الروسي على قانون “قيصر”، تمثّل باستدراج الجناح السياسي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المحكومة من قبل حزب “العمال الكردستاني” التركي (PKK) إلى موسكو، لمحاولة إيجاد تقاطعات بين هذه القوات المدعومة أمريكيًا وبين النظام السوري عبر حليفهم التاريخي “منصة موسكو” بقيادة قدري جميل.

غاية الاستدراج تتمثل بتيسير “قسد” لضخ النفط نحو مناطق النظام، لتخفيف حالة العجز بتأمين الطاقة، التي عجز النظام السوري عن حلها، مع وعود بتلبية مطالب هذه القوات حيال طبيعة نظام الحكم في البلاد، وإلحاقها مع فريق مفاوضات المعارضة.

“قسد” لا تمتلك فضاء سياسيًا حرًّا تستطيع فيه ممارسة خيارات خاصة بها، لأنها ببساطة تقع في دائرة الحماية الأمريكية التي تستخدمها لتنفيذ استراتيجيتها غير المعلنة في هذا البلد، ولهذا تبدو محاولة الروس في هذا الإطار وكأنها تشجيع على انقسام سياسي وعسكري في بنية “قسد”، لإضعاف دورها والهيمنة عليه، والتمهيد لطرد الأمريكيين “شوكة حلق روسيا في سوريا”.

وفق هذه الرؤية، يمكن القول إن الروس يتحدثون عن “جنيف” بصورة تبدو مشجعة لهذا المسار، ولكنهم في الوقت ذاته يزيدون من صلابة موقف النظام السوري، عبر دعمهم له اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، ولهذا هم غير جادين في توفير شروط نجاح المفاوضات في جنيف، فطريق “جنيف” واضح، ومضمون القرار 2254 واضح، ولكن الروس يعملون على إماتة هذا القرار، بتقادم الزمن عليه، وتغير الشروط الدولية المطالبة بتنفيذه.

والروس يريدون بقاء نظام بشار الأسد في سدّة الحكم، فهو النظام الوحيد المستعد دائمًا للتنازل عن حقوق سيادية سورية لهم، أو لغيرهم، مقابل بقائه في الحكم ولو بصورة شكلية.

ولكن هل ينجح الروس في إيجاد مخارج حياة للنظام؟ وهل زيارة الوفد الروسي تخدم هذا الهدف بصورة حقيقية؟ الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لا تتعلق برغبات الروس وأمانيهم في سوريا، بل بميزان قوى لا يزال يتحرك لغير مصلحة النظام وخطط الروس، وقد اتضح هذا الميزان في حرب إدلب الأخيرة، التي لو استمرت لأيام أخرى لانهار النظام ولوقف الروس مشدوهين أمام انهياره.

وبالتالي، لا يزال الروس يتشاطرون على الأمريكيين المشغولين بمعركتهم الرئاسية، وفق المثل القائل “غاب القط فالعب أيها الفأر”، فالحيوية الروسية تنشط في ظل همود النشاط السياسي الأمريكي، ولكن هذه الحسابات الروسية هي مؤقتة، ولا ينتج عنها تغيير استراتيجي لمصلحتهم في ملف الصراع السوري، وهو أمر يتطلب من المعارضة السورية بكل تلويناتها ومؤسساتها وأطرها إعادة إنتاج رؤية سياسية موازية للمفاوضات في جنيف، هذه الرؤية تتلخص بفكرة وحيدة ورئيسة، وهي وضع برنامج عمل ثوري سوري حقيقي، هدفه الأول استنزاف روسيا في الميدان بشريًا وعسكريًا واقتصاديًا، فلا شيء لدى المعارضة الوطنية تخسره في هذا الاتجاه، سوى ترددها وخوفها من عدو لا يحتمل ضربات جادة لوجوده كقوة احتلال.

بقي أن نقول إن زيارة الوفد الروسي (بوريسوف- لافروف) لا جديد فيها، بل هي تأكيد مستمر على نهج روسي معادٍ للثورة السورية والشعب السوري، وهذا ما ستظهره الأيام القريبة المقبلة.

مقالات متعلقة

  1.  اللجنة الدستورية.. لماذا يتهرب نظام الأسد من تدوير عجلتها؟
  2. العقوبات الأمريكية.. مفتاح الحل السياسي في سوريا
  3. غودو اللجنة الدستورية وعبث الآخرين
  4. تأجيلٌ لموعد "جنيف".. دي ميستورا يُحدّد نقاط التفاوض

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي