“نحن معارضون للنظام السوري ولسياسة (حزب الله) اللبناني في سوريا، أهالينا جميعهم قُتلوا ظلمًا فكيف سنستطيع العودة؟ مهما كانت الأرض غالية يبقى جسد الإنسان وروحه أغلى”.
لن يتمكن الصحفي السوري محمد الزهوري ابن مدينة القصير الواقعة بريف حمص الغربي من العودة إليها، أو استرجاع ملكياته العقارية في ظل المعطيات الحالية، وهيمنة “حزب الله” والنظام على المنطقة.
حال محمد هي حال عشرات الآلاف من أهالي المدنية الذين هُجّروا منها مرغمين في أول وأكبر عملية تهجير قسري شهدتها الحرب السورية عام 2013، إذ لم يتبقَّ في المدينة حينها إلا العشرات منهم.
قال محمد، الذي اختار اللجوء إلى أوروبا، في حديثه إلى عنب بلدي، “أكثر من 95% من سكان القصير لا يستطيعون العودة إليها منذ سبع سنوات وحتى الآن، أما من عادوا فأغلبيتهم موظفون حكوميون مقربون من النظام، وقد وافق على عودتهم (حزب الله) بعد قيام جهات تابعة للنظام بعملية التحقق الأمني من أسمائهم”.
ويستغل “حزب الله” غياب أهالي القصير عن مدينتهم، والظروف الصعبة التي يعيشونها بسبب نزوحهم ولجوئهم، محاولًا عن طريق وسطاء شراء أراضيهم الزراعية، وأضاف محمد بهذا الصدد، “يوجد حاليًا عشرات آلاف المهجرين من أهالي القصير في منطقة (عرسال) الجبلية اللبنانية، وهم لديهم أملاك (لا تأكلها النيران)، لكن معظمهم لا يودون العودة لأن ذلك يمس كرامتهم، ويحاول أفراد تابعون للحزب أو موالون له شراء الأراضي من العائلات النازحة، إذ غالبًا ما يرسلون لهم وسطاء يعرضون عليهم شراء أراضيهم، خاصة في أيام الشتاء التي تتراكم فيها الثلوج بتلك المنطقة ما يزيد من صعوبات العيش فيها”.
وتابع، “معظم الأشخاص لم يستجيبوا لتلك العروض، لكن البعض ممن كانوا بحاجة ولديهم أطفال أو يتامى أو حالات صحية اضطروا للبيع”.
لم يكتفِ “حزب الله” بالسيطرة على المدينة وتهجير أهلها، بل عمد إلى حرق المحاصيل الزراعية، واقتلاع الأشجار، وأشار محمد إلى أنه عند دخول الحزب إلى المدينة عام 2013 قطع 15 ألف شجرة وحولها إلى حطب، ثم باعه إلى اللاجئين السوريين في عرسال وطرابلس، لافتًا إلى أن أحد الأشخاص ممن كانوا يكتبون ذكرياتهم على الشجر، وجد جذع الشجرة الذي كتب عليه ذكرياته وذكريات ابن عمه.
“وبعد أن قطع الحزب الأشجار من الأراضي الزراعية قام بفلاحتها واستغلال بعضها بزراعة الحشيش، مستفيدًا من خصوبة التربة وغزارة المياه وصفائها”، أضاف محمد.
تعد “القصير” من المدن الكبيرة في محافظة حمص، وتتبع لها أكثر من 80 قرية أغلبها من الطائفة السنية، إلى جانب قرىً من طوائف مسيحية وشيعية وعلوية، وبلغ عدد سكان المنطقة نحو 111969 نسمة، وفقًا لإحصاء 2011.
وتكتسب المدينة أهمية استراتيجية كونها تقع على الحدود السورية- اللبنانية، وتربط منطقة البقاع اللبنانية بمحافظة حمص وسط سوريا عبر معبر “جوسية”، إضافة إلى قربها من منطقة القلمون بريف دمشق، ما جعلها مركزًا للتبادل التجاري.
كيف يثبّت “حزب الله” هيمنته؟
الناشط الإعلامي أبو الهدى الحمصي، أكد من جانبه قيام كل من “حزب الله” اللبناني والنظام السوري باقتلاع الأشجار وحرق المحاصيل الزراعية من الأراضي الموجودة في القصير وريفها.
وقال في حديثه إلى عنب بلدي، إنه يمكن القول إن الأراضي باتت جرداء، وقد تحولت إلى تراب، ولم يبقَ فيها أي أشجار، وإذا تمكن أحد أصحابها من العودة إلى المدينة فعليه معاودة زراعتها وفلاحتها وحصادها.
وفيما يخص بيع الأراضي والممتلكات العقارية في المدينة، أشار أبو الهدى إلى أن بعض المالكين، سواء ممن يوجدون في لبنان أو في الشمال السوري أو غيرها من المناطق، يضطرون حينما يمرون بظروف قاهرة أو يحتاجون إلى مبلغ معين لعرض أراضيهم أو منازلهم للبيع، ليتم شراؤها من قبل أهالي المدينة أنفسهم، أو عن طريق أشخاص تابعين لـ”حزب الله” أو لديهم ولاء مطلق له، وفق ما سمعه من أقاويل لكنه لم يرَ ذلك بعينه، وفق تعبيره.
وأوضح أبو الهدى أن لـ”حزب الله” وجودًا قديمًا في المنطقة بفعل الشخصيات الذين لديهم ولاء مطلق له، وهم من السوريين الذين يمتلكون جنسية لبنانية، ويعيشون في عدد من قرى القصير الواقعة غربي نهر “العاصي”، مثل الديابية، والبرهانية، والسقرجة، وحاويك، والمصرية، والعقربية، والصفصافة، والزيتي، لافتًا إلى أن هؤلاء الشخصيات ساندوا “حزب الله” خلال حملته العسكرية التي شنها للسيطرة على هذه القرى، وهو يستولي عليها استيلاء كاملًا، وتشكل حاضنته الشعبية.
سيطرت قوات النظام السوري، على القصير بدعم رئيس من “حزب الله” اللبناني في حزيران من عام 2013، وذلك بعد هجوم كبير استخدمت فيه قوات النظام وميليشيا الحزب جميع أنواع الأسلحة، إلى جانب قصف جوي مركّز، دفع المدنيين إلى النزوح بشكل متقطع في بادئ الأمر.
تبع ذلك نزوح “قسري” كان الأكبر في أثناء الحملة العسكرية الثانية في أيار من العام ذاته، وهو ما أفضى إلى سيطرة كاملة لقوات النظام، وغياب المدينة عن خريطة السيطرة لفصائل المعارضة.
ومنذ خسارتهم لمدينتهم، نزح الآلاف من أهالي المدينة إلى الشمال السوري، كما لجأ عدد منهم إلى بلدة عرسال اللبنانية القريبة.
وحوّل “حزب الله” القصير خلال السنوات الماضية إلى قاعدة أساسية له، ومنطلق لعملياته العسكرية التي توسعت إلى بقية المناطق السورية، وخاصة الواقعة على الشريط الحدودي مع لبنان.
لا عمليات استيلاء أو مصادرة ولكن..
الصحفي السوري أحمد القصير أشار من جهته إلى وجود حركة نشطة لشراء العقارات يقوم بها “حزب الله” وأنصاره، والشيعة الذين يقطنون في القصير وما حولها.
وفي حديثه لعنب بلدي، لفت إلى أن الحزب يشتري الممتلكات العقارية والأراضي الزراعية مستغلًا حاجة الناس والفقر الذي لحق بهم في هذه المرحلة.
وأكد، من خلال اطلاعه على الوضع هناك، عدم وجود عمليات إجبار على البيع، لكن بعض الأشخاص الموجودين في الخيام أو المسافرين يضطرون لبيع ممتلكاتهم بسبب الفقر، ليشتريها أفراد من جماعة “حزب الله”، كونهم أكثر الأشخاص الذين يمتلكون أموالًا.
وأوضح أحمد أن “حزب الله” يتملك عن طريق السكان الشيعة الموالين له في القرى المحيطة بالقصير بسبب عدم قدرته على تسجيل الأملاك باسمه، وهي قرى سورية يحمل بعض سكانها الجنسيتين السورية واللبنانية، ويتمتعون بصلات قرابة مع القرى اللبنانية المقابلة لها.
ونفى أحمد وجود عمليات استيلاء موثقة على العقارات أو مصادرة من قبل الحزب أو النظام، أو قرارات معلنة ضد الأشخاص الذين لم يتمكنوا من العودة، مشيرًا إلى أن المعلومات التي حصل عليها عن طريق الأشخاص الذين عادوا إلى المدينة مؤخرًا تفيد بأنه بإمكان صاحب المنزل إخراج من يقيم فيه واسترداده بعد إثبات ملكيته، كما يحق له ترميمه لكن بعد الحصول على العديد من الموافقات ضمن المنطقة والبلدية والأمن العسكري.
ولفت في هذا السياق إلى أن بعض العائلات الشيعية التي تم جلبها من كفريا والفوعة، بموجب اتفاق المدن الأربع، ونسبتهم ليست كبيرة، استقرت في بعض مناطق القصير لكن لم يتم تمليكها أي منازل.
بلغ عدد العائدين إلى مدينة القصير منذ إعلان وصول الدفعة الأولى من الأهالي في تموز من عام 2019 وحتى اليوم نحو خمسة آلاف شخص.
ويحتاج الراغبون بالعودة، سواء كانوا من النازحين في محافظات سورية أخرى أو اللاجئين في لبنان، إلى طلب موافقات أمنية قد تأتي مع القبول أو الرفض.
ولم يتم تقديم ضمانات واضحة للاجئين في لبنان، لكن بعضهم يضطر إلى العودة خوفًا من الملاحقات الأمنية من مخابرات الجيش اللبناني، إذ لا يملك كثير منهم أوراقًا قانونية للبقاء في لبنان.
ولا تزال المدينة تعاني من بنية تحتية مدمرة وخدمات أساسية ضعيفة، ويعمل العائدون على إعادة تأهيل منازلهم وترميمها بما يتوفر لهم من إمكانات فردية.
وقد تسبب القصف الذي تعرضت له بتدمير شبه كلي للأجزاء الشمالية والغربية من المدينة التي كانت تتمركز فيها المعارضة، في حين تعرض الحي الشرقي الموالي للنظام لضرر ضئيل.
وتوقفت عودة الأهالي حاليًا مع ظروف انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).
مخطط تنظيمي للقصير
أعلن النظام السوري عن المخطط التنظيمي لمدينة القصير، في 10 من تشرين الأول 2018، بموجب القانون “رقم 10”.
ونُشر الإعلان عبر صفحة مجلس مدينة القصير في موقع “فيس بوك”، وجاء فيه أنه “على من يرغب بالاعتراض تقديم اعتراضه لديوان مجلس المدينة اعتبارًا من 10 من تشرين الأول ولغاية 9 من تشرين الثاني بنهاية الدوام الرسمي”.
وأشار الإعلان إلى أن “جميع الحقوق والملكيات الشخصية مصونة ومحفوظة، بالإضافة إلى جميع المرافق الحيوية والصحية والدينية والتربوية والترفيهية”.
من جهته، وعد محافظ حمص بأن تعمل مؤسسات المحافظة بخطة عمل واضحة لتسريع تأمين الخدمات، إضافة إلى إزالة الأنقاض، لتعود القصير بعد أشهر إلى حياتها الطبيعية، بحسب قوله.
وأرفق المجلس مع الإعلان صورة للمخطط التنظيمي، الذي يعتبر الأول المعلن عنه بشكل رسمي بعد إقرار القانون “رقم 10”.
وتزامن إصدار المخطط التنظيمي للمدينة مع غياب سكانها عنها، وعدم قدرتهم على القدوم إليها من أجل تقديم الاعتراض أو إثبات ملكياتهم.
ويعتقد الصحفي أحمد القصير أن المخطط التنظيمي تم إيقافه مؤخرًا ولم يستكمل، نظرًا لنسبة الدمار الكبيرة في المدينة والتي وصلت إلى 75%.
أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، القانون “رقم 10″، في نيسان من عام 2018، وينص على “إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية”.
ويلزم القانون مالكي المنازل بتقديم ما يثبت ملكيتهم للعقارات في غضون 30 يومًا، وإلا فإنهم سيخسرون ملكية هذه العقارات وتصادرها الدولة، ويحق لها تمليكها لمن تراه مناسبًا.
ويعاب على القانون أنه جاء في وقت هُجّر فيه أكثر من نصف السوريين من بيوتهم، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، ما يعني أن الحكومة قد تستثمر غيابهم وفقدان أوراق ملكياتهم للاستحواذ على أملاكهم بطرق تعتبرها “قانونية”.
ولاقى القانون حملة احتجاج واستنكار محلية ودولية، ما دفع النظام إلى إصدار تعديلات للقانون، منها “تغيير مدة تقديم طلبات الاعتراض وتثبيت الملكية من شهر إلى سنة، بالنسبة لأصحاب حقوق الملكية العقارية، وإعطاء الحق لأصحاب الحقوق الذين لم يتقدموا باعتراضاتهم أمام اللجان القضائية المختصة بتثبيت ملكياتهم، باللجوء إلى القضاء العادي بعد انتهاء تلك اللجان من أعمالها”.
ووفقًا لتقرير أصدرته منظمة “هيومن رايتس ووتش”، فإن القانون يوفر إطارًا رسميًا لإحالة ملكية الأراضي إلى النظام السوري، الذي يتمتع بسلطة منح عقود إعادة الإعمار والتطوير للشركات أو المستثمرين وتعويضهم على شكل حصص في المناطق التنظيمية.
حفظ الحقوق
عضو “الرابطة السورية لكرامة المواطن” المحامي محمد الجوجة، تحدث لعنب بلدي عن الكيفية التي يلجأ إليها “حزب الله” للتملك في سوريا، والآلية القانونية للحفاظ على حقوق الملكية العقارية لأهالي القصير.
وأشار إلى أن “حزب الله” يعمد إلى شراء العقارات عن طريق عملاء محليين تابعين له يقومون بتسجيل الأملاك باسمهم، أو أنه يتحايل على القانون بتسجيل العقارات بأسماء عناصر من صفوفه ممن حصلوا على الجنسية السورية.
وأوضح المحامي أن القانونين رقم (11) لعام 2008، ورقم (11) لعام 2011 أعطيا الحق للأجانب بالتملك ولكن ضمن شروط، لافتًا إلى أنه من الممكن لـ”حزب الله” أن يستفيد من هذه الاستثناءات لشراء الملكيات العقارية في سوريا، وخاصة السكنية منها.
وبيّن أن المادة الأولى من القانون رقم (11) لعام 2011 نصت على أنه “يجوز إنشاء أو تعديل أو نقل أي حق عيني عقاري في أراضي الجمهورية العربية السورية لاسم أو لمنفعة شخص غير سوري طبيعيًا كان أو اعتباريًا”، مشيرًا إلى أن هذه المادة حددت شروط التملك التي يستطيع من خلالها “حزب الله” تملك العقارات السكنية، كما نصت الفقرة /ج/ من نفس المادة على أنه “يجوز بقرار من مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية والخارجية الاستثناء من الأحكام الواردة في الفقرتين /أ/ و/ب/”.
وأضاف الجوجة، “علاوة على ذلك يعلم الجميع مدى سيطرة (حزب الله) وإيران على القرارات الرسمية في سوريا”.
ونصح المحامي محمد الجوجة أهالي القصير ممن لم يتمكنوا من العودة إليها، بالاحتفاظ بجميع الوثائق الرسمية التي تثبت ملكياتهم، إلى جانب فواتير الماء والكهرباء، وفي حال كان لديهم أقارب في الداخل سيكون من الجيد إسكانهم في ممتلكاتهم.
ولفت الجوجة إلى أن القضاء المحلي هو وحده من يستطيع البتّ في القضايا الناشئة عن الملكية، وهو الأمر الذي يجب التركيز عليه في حال تم التوصل إلى اتفاق سياسي في البلاد، مؤكدًا على ضرورة الضغط في سبيل تضمين بنود هذا الاتفاق بندًا خاصًا بممتلكات السوريين، وتحديد الآلية القضائية التي ستفصل في هذه الدعاوى.
ويربط كثير من المهجرين السوريين عودتهم الآمنة إلى سوريا باستعادتهم لممتلكاتهم، وفقًا للجوجة الذي أكد أن “الأمر معقّد وشائك ويحتاج إلى كثير من العمل والمناصرة”.
لم تكن القوانين السورية الصارمة فيما سبق تسمح للعرب أو الأجانب بالتملّك العقاري في سوريا، إلى أن جاء القانون رقم (11) لعام 2008، الذي فتح الباب أمام تملّك غير السوريين لدور السكن، وأعقبه القانون رقم (11) لعام 2011، الذي أتاح للأجانب تملّك جميع أنواع العقارات في سوريا، وقد أثار صدور هذين القرارين كثيرًا من التساؤلات في الأوساط السورية حول الغاية منهما، خاصة مع توقيت صدور الأخير الذي تزامن مع بدء الثورة السورية.
ويحظر المرسوم التشريعي رقم (189) لعام 1952 بشكل مطلق تملّك الأجانب للعقارات في سوريا، ومن ثم صدر القرار رقم /3287/م/ ن/ بتاريخ 14 من تموز 2002، الذي بدأ التخفيف من حدة هذا المنع، إذ إنه منح الحق لغير السوريين من أبناء البلاد العربية أن يكتسبوا حقوقًا عينية عقارية شرط الحصول على رخصة من وزير الداخلية، كما سمح لهم باكتساب الحقوق العينية العقارية في مناطق الاصطياف دون شرط الرخصة.
–