“شارع شيكاغو”.. دراما بعثية بنكهة تركية
هشام الزعوقي
في شارع بورسعيد لم تكن سينما “الأهرام” أفضل دورًا من السينما في مدينة دمشق، لكن أفلامها كانت تتناسب مع طيش المراهقين، على بعد أمتار قليلة منها توجد حارة صغيرة مغلقة، لا يتجاوز طولها أكثر من مئة متر، فيها بعض المحلات المتواضعة والمهملة. كنا صغارًا ولا نكهة لأيام العيد من دون السينما. كنا نمر بجانب تلك الحارة المهجورة نتهامس ونضحك من قصص السكارى والراقصات، لكن لم نتجرأ يومًا على الاقتراب من حاناتها ودكاكينها النصف مغلقة، تلك الحارة كان اسمها يومًَا ما “شارع شيكاغو”. أيامها، لا شيء يوحي بأن ذلك المكان كانت له “أبّهة” أو مجد غابر.
لكن على نقيض ذلك، نجد أن مسلسل “شارع شيكاغو” يحاول أن يُعطيها، أي الحارة، أهمية مبالغًا بها ويحاول أن يخترع شارعًا مهمًا على طريقة شارع “محمد علي” في القاهرة، حيث ظل ذلك الشارع لسنوات طويلة مكانًا للراقصات المحترفات، والفرق الموسيقية. واشتهر بالمسارح ومقاهي وكازينوهات أهل الفن، مما منحه مكانة خاصة لدى عشاق الفن والإبداع، الذين يحملون ذكريات جميلة لذلك الشارع. أما “شارع شيكاغو” فلم يبلغ أبدًا تلك الأهمية بالنسبة لمدينتنا، ومحاولة المسلسل اختصار تاريخ دمشق من خلال بعض حكايات وذكريات وشخصيات وأجواء ذلك الشارع، هي محاولة فيها الكثير من التشويه والمسخ لحقيقة أجواء الخمسينيات والستينيات لهذه العاصمة.
يقوم بناء المسلسل على سرد حكايتين بالتوازي ما بين الماضي والحاضر، أبطال كلتا الحكايتين مغنية، رجل أمن ومثقف (صحفي)، ثم تأتي بقية الشخصيات المساعدة لتتمة المسلسل. مجموعات من الراقصات، رجال دين، قبضايات، بعض رجال السياسة الهواة وصعاليك من هنا وهناك.
“ميرامار” فتاة جميلة لكنها كفيفة من عائلة دمشقية يعمل والدها في التجارة، أخوها ضابط أمن قاسي وفاسد من رجال عبد الحميد السراج، ولها حبيب صحفي اسمه “مراد”، وهو شاب شيوعي في غالب الأمر، ينحدر من عائلة غنية قضت على أملاكها انجازات التأميم. لديهم صديقان “جورجيت” و”حسني”، يتزوجان على الطريقة الإسلامية في غرفة المكينات في صالة سينما. “ميرامار” تحب الغناء وتبدأ الغناء في أحد كباريهات شارع شيكاغو ضمن معارضة الأب والأخ، لكن بتشجيع من حبيبها وأصدقائه. الحكاية الموازية لوقتنا الحاضر هي حكاية “سماهر” المغنية التي تعمل في إحدى أندية الليل المنتشرة على أطراف مدينة دمشق، لها أخ واحد وهو ضابط أمن نزيه، وأب يعمل في شرطة المرور، تتعرف “سماهر” على رجل غني جدًا ذو نفوذ من حيتان نظام الأسد.
حتوتة المسلسل تقوم على “مقتل” أو اختفاء “ميرامار” المفاجئ، هذا اللغز المحير الذي استمد المسلسل منه قوة الدفع الدرامي لبقية الأحداث وانعكس على مصير بقية الشخصيات مما أعطى المسلسل طابع بوليسي تشويقي و مسلي.
مقارنة بنتاجات الدراما السوريا الرديئة في السنوات الأخيرة استطاع مسلسل شارع شيكاغو أن يكون عملًا مختلفًا ومتقدمًا نوعًا ما، فلقد ضم شريحة مهمة من ممثلين الصف الأول في سوريا مثل سلافة فواخرجي، أمل عرفة، عباس النوري، وائل رمضان، مهيار خضور، جوان الخضر، شكران مرتضي، فايز قزق، مصطفى المصطفى، رؤى البدعيش ودريد لحام.
سيناريو المسلسل مكتوب بطريقة شيقة وجذابة إلا أنه من الواضح أن كاتبه لا يمت بصلة لمدينة دمشق ولا يعرف أسرارها وخباياها. فكل الأحداث التي تجري في المدينة تبدو وكأنها تجميع لبحث تاريخي من مجموعة كتب وأدبيات حزب “البعث” لفترة الخمسينيات والستينيات الصقت لصقًا بالمسلسل. أي (فترة الوحدة وعبد الناصر، حركة الأخوان المسلمون والانفصال، من ثم صعود المتسلقين والانتهازيين…).
على الرغم من تماسك سيناريو المسلسل كنص مكتوب إلا أن الإخراج للأسف بدا وكأنه عملية تصوير أوتوماتيكية لما ورد حرفيًا في السيناريو دون المقدرة على استنباط روح النص. وما أشيع عن أن قبلة “ميرامار” لحبيبها “مراد” كانت السبب الأساسي في محاربة المسلسل من قبل بعض البيئات “الحاضنة للإرهاب” حسب قول المخرج في مقابلة إذاعية له، وهو اتهام رخيص وهروب من مشاكل المسلسل الأساسية. فالمسلسل فشل في نقل أحاسيس الشخصيات لنا وفشل في نقل روح البيئة الدمشقية وفشل حتى في نقل طبيعة الصراعات السياسية في تلك المرحلة، وفشل في طريقة التأسيس للشخصيات التي بدت في كثير من الأحيان غير مقنعة تميل إلى الصراخ وتردد حوارات ساذجة لا تؤثر أبدًا على تطور الصراع. بل وحتى فشل في نقل الأحاسيس الأهم في قصة الحب الملتهبة تلك. وفي بعض الأحيان لوحظ ثقل في حركة الممثلين أظهرهم وكأنهم مرضى نفسيون أكثر منهم ممثلون. إن عدم تماسك عملية السرد الدرامي وغياب الانتقال السلس بين اللقطات والاستعاضة عنها بمشاهد مصفوفة بجانب بعضها البعض أدى لخلق بنية متفككة في شكل المسلسل. ولتلافي هذا الخلل تم الاستعاضة عنه بطريقة “المبالغات البصرية والصوتية” التي كانت أقرب إلى الزركشة وبعيدة كل البعد عن الإبهار البصري الخلاق. إن الاعتماد على “الوصفة التركية” في شكل الصورة واللون والكادر وحتى في نمط الشخصيات وشكلها وملابسها وطريقة حضورها وأداءها لم ينقذ المسلسل من التفكك. إن أي مشاهد متوسط المعرفة ومتابع للتلفزيون يلاحظ تمامًا طريقة صناع المسلسل في تقليد المسلسلات التركية، ومن الغريب أن مسلسل مثل “باب الحارة”، على الرغم من بؤسه، يكاد أن يكون في بعض جوانبه أقرب في نقل بعض أجواء مدينة دمشق من مسلسل “شارع شيكاغو”.
من مشاهد المسلسل المهمة مشهد (ميرامار– سلافة فواخرجي) وهي ترقص على طريقة الحضرة المولوية والذي من المفترض أن يمثل “ذروة درامية” في الحكاية، إلا أنه بدا مشهدًا ضحلًا إخراجيًا ومن غير المفهوم سبب غياب الكوادر القريبة في التصوير والتي رافقت أيضًا عموم المسلسل مما أثر جوهريًا على تشكيل المشاعر وغيّب انفعالات الشخصيات.
إن تكرر مشاهد صالة السينما في المسلسل والمستعارة من الفيلم الإيطالي “سينما بارديسوا” لم تعطِ أي جدية لرمزية وأهمية توفر دور السينما في حياة المجتمع والناس، وكانت بمثابة استعارات فاشلة غير موفقة لمقولات جاهزة لم يصلنا أي إحساس فيها. مثلها مثل مشاهد وجود شخصية “غيفارا” في المسلسل فهذه الرمزية بدت وكأنها تهريج و فذلكة أكثر منها كضرورة درامية.
من المتعارف عليه أن أضعف أنماط التصوير هي عندما تصور مزهرية وتكتب تحتها مزهرية. وهذا ما حدث في المسلسل عندما شاهدنا ازدحام جدران غرفة “مراد” بصور وبراويز للعديد من المشاهير. ذلك الازدحام الذي يعبر عن ذوق مفتعل أقرب إلى طباع المراهقين والمراهقات فهم وحدهم من تغطي كامل جدرانهم صور وصور. هذا الذوق لا يمارسه أهل دمشق. وكأن صناع المسلسل لم يدخلوا بيتًا دمشقيًا حقيقيًا في حياتهم.
لا وجود لدمشق في “شارع شيكاغو”. مثلما لا وجود لدمشق في ظلٍ حكم “البعث”، لقد أُعتقلت المدينة. دمشق التي عرفناها في كتابات زكريا تامر، وخير الدين الذهبي، وألفة الإدلبي، وحسيب كيالي وحتى دمشق في فيلم المبدع محمد ملص “أحلام المدينة”.
وأخيرًا، فإن سكان مدينة دمشق يعرفون تمامًا أن عاصمتهم هي ليست ذاتها قبل وبعد عام 1970. فمع مجيء الأسد الأب ستتغير ملامح مدينتهم لفترة طويلة ليشمل هذا التغيير فيما بعد باقي المدن السورية. ومما يُذكر أن عدد دور السينما في سوريا بلغ قبل عام 1970 حوالي أكثر من 120 دار سينما لم يتبق منها إلى الآن سوى أعداد ضئيلة مخجلة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :