عنب بلدي – خولة حفظي
“أعجز عن تأمين بعض الطلبات لأسرتي بسبب محدودية دخلي التقاعدي وارتفاع الأسعار، خاصة مع حاجتي إلى سلّة من الأدوية أسبوعيًا، بما فيها علاج داءي الضغط والكوليسترول المزمنين، الذي ارتفعت أسعاره مؤخرًا”.
بكلمات ممزوجة بالعجز والخيبة، تحدث محمد الجاسم (اسم مستعار لضرورة أمنية)، إلى عنب بلدي، عن معاناته بعدما أُحيل على التقاعد.
بدا الرجل السبعيني مرتبكًا متلعثم الحروف، ويمضي بالحديث عن راتبه التقاعدي الذي لا يتجاوز 30 ألف ليرة سورية (15 دولارًا تقريبًا)، والذي من المفترض أن يكفيه وأسرته التي تضم زوجته وابنتين إلى جانبه.
في العاصمة دمشق، التي يشكو أغلب سكانها من ارتفاع الأسعار، وعجزهم عن التأقلم مع واقع معيشي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، يعيش المتقاعد السبعيني محاولًا مصارعة الحياة ومتمسكًا برغبته ولهفة الأب في تأمين متطلبات الحياة لابنتيه.
وتابع، “فضّلتُ العمل في شبابي بوظيفة حكومية باعتبار أنها تؤمّن لي راتبًا تقاعديًا يضمن لي مستقبلي، وأفنيت شبابي أملًا في راتب ثابت يحميني من ذل السؤال، لكنني اكتشفت مؤخرًا أنني أخطأت بهذا التفكير”.
وتتراوح رواتب متقاعدي الوظائف الحكومية في حكومة النظام السوري بين 20 و40 ألف ليرة سورية، بحسب ما رصدته عنب بلدي من موظفين متقاعدين.
عمل بعد التقاعد
ولا تختلف معاناة محمد الجاسم عن معاناة أحمد جومر، وهو متقاعد ستيني من موظفي المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات بدمشق، لكنه قرر أن يلجأ إلى العمل مجددًا بعد إحالته على التقاعد.
وقال المتقاعد الستيني، “اضطررتُ للعمل تماشيًا مع ارتفاع الأسعار”، لكنه لم يجد إلا شاغرًا في أحد محلات بيع سندويش الفلافل في دمشق، فقبل به رغم معاناته من مرض “الديسك”.
وتابع، “لأحفظ ماء وجهي وأمنع نفسي من ذل السؤال، بالاستناد إلى راتبي التقاعدي الذي لا يكفيني لوحدي أنا وزوجتي، أحاول تأمين مصروفي حتى لو تعرضت لألم في الظهر من الوقوف والعمل في المحل”.
“أحاول العمل بخفة كي لا يتململ صاحب المحل من ثقل حركتي ويحيلني أيضًا على التقاعد”، أضاف الرجل الستيني ساخرًا، وتابع “لا مجال للراحة والاسترخاء، وكأنني شاب أشق حياتي من جديد”.
سوريا في المرتبة الأولى عالميًا من حيث الفقر
وتصدّرت سوريا قائمة الدول الأكثر فقرًا في العالم، بنسبة بلغت 82.5%، بحسب بيانات موقع “World By Map” العالمي.
وأصدر الموقع بيانات وإحصائيات للسكان الواقعين تحت خط الفقر في كل دولة من دول العالم، وجاءت سوريا في المرتبة الأولى عالميًا من حيث الفقر.
ويعرف مستوى الفقر بأنه أدنى مستوى من الدخل يستطيع به الفرد أن يوفر مستوى معيشة ملائمًا.
وتتوافق أرقام الموقع مع أرقام الأمم المتحدة، إذ قدرت نسبة السوريين تحت خط الفقر بـ83%، بحسب تقريرها السنوي لعام 2019، حول أبرز احتياجات سوريا الإنسانية.
وجاء في التقرير أن 83% من السكان يعيشون في فقر مدقع، ونتيجة لذلك استنفدت القدرة على التكيف لدى كثير من الناس في المجتمعات المحلية الأكثر تضررًا في سوريا.
المتقاعد والمعاش التقاعدي
المتقاعد هو كل موظف مدني أو عسكري انتهت مدة خدمته في قطاعات الدولة، وخُصص له معاش تقاعدي عن الفترة التي قضاها، ويجب أن يكون قبل التقاعد موظفًا تربطه بالدولة علاقة لائحية لها صفة الدوام، ومدة خدمة فعلية مدرجة في الميزانية العامة للدولة.
والمعاش التقاعدي هو الأجر الذي يتقاضاه الموظف أو العامل، عندما يكفّ عن ممارسة وظائفه بالإحالة على التقاعد، ويعد المعاش التقاعدي امتدادًا للراتب الوظيفي، وهو أساسي في حياة الموظف أو العامل، والهدف منه هو توفير ضمان مالي للفرد وعائلته، وهو مضمون حتى وفاة الشخص، وتُدفع بعدها نسبة من الراتب إلى زوجته أو المنتفع من الراتب بعد وفاته.
وفي سوريا يمكن للموظف إنهاء خدمته بحالتين، إما إتمام سن الـ60 ووصول الخدمة المحسوبة في المعاش إلى 15 عامًا، أو عبر نظام التقاعد المبكر، الذي يمكّن العامل أن يطلب الإحالة على التقاعد بعد بلوغ سنوات توظيفه 25 سنة، دون التقيد بشرط السن.
ويحسب المعاش التقاعدي اليوم في سوريا على أساس معادلة لجميع الموظفين والعاملين كقاعدة عامة مع وجود بعض الاستثناءات عن هذه القاعدة وهي: عدد سنوات الخدمة× متوسط أجر السنة الأخيرة÷ 40.
ولا تتناسب رواتب موظفي الدولة المتقاعدين منهم والقائمين على رأس عملهم مع متطلبات الحياة الضرورية، ما يدفعهم إلى مزاولة مهنة أخرى ليتمكنوا من التأقلم مع ارتفاع الأسعار.
طوابير من المتقاعدين للحصول على رواتبهم
تداولت صفحات محلية صورًا لمتقاعدين في إحدى دوائر الدولة يتجمعون للحصول على رواتبهم، ما يتناقض مع ما أعلنت عنه الحكومة بالحد من التجمعات منعًا لانتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).
وبعد الانتقادات التي رافقت انتشار تلك الصور، أصدر رئيس حكومة النظام السوري السابق، عماد خميس، في 30 من آذار الماضي، قرارًا ينص على تحديد قبض الرواتب والأجور للعاملين في الدولة، ويتضمن توزيع الرواتب بشكل تدريجي.
وبموجب القرار تصرف الرواتب والأجور للعاملين القائمين على رأس عملهم اعتبارًا من 23 من كل شهر.
وتصرف “المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات” رواتب المتقاعدين العسكريين وورثتهم عبر أجهزة الصراف الآلية بتاريخ 10 من كل شهر، وعن طريق دفاتر معاش والبريد في 25 من كل شهر.
أما رواتب المتقاعدين المدنيين وورثتهم، فتُصرف عبر أجهزة الصراف الآلية في 20 من كل شهر، وعبر دفاتر معاش والبريد في اليوم الأخير من كل شهر.
وينص القرار على أن تصرف “مؤسسة التأمينات الاجتماعية” معاشات المتقاعدين وورثتهم عن طريق الصرافات في 15 من كل شهر، وعبر الكوات البريدية في 20 من كل شهر.
العصا ملاذها الأخير
تمسك ليلى التقي (50 عامًا) بعصا أداة التنظيف تتأملها وكأنها ملاذها الوحيد ومصدر رزقها بعد رحيل زوجها.
وقالت ليلى، “بعد وفاة زوجي صار راتبه الذي أتقاضاه 25 ألف ليرة سورية، ما دفعني للبحث عن فرصة لأوائم بين احتياجي اليومية وارتفاع الأسعار”.
تروي المرأة بملامحها الكئيبة حكاية تعب وألم ومشقة، وقالت لعنب بلدي، “ليس لي أولاد يعينونني في الحياة”.
وأضافت، “وجدتُ نفسي مضطرة للعمل في عيادة لطبيب الأسنان أنظف المكان، وفي الليل أعود إلى بيتي، لأن الكرامة لا تُشترى ولم أعتد على السؤال يومًا”.
ومع بداية انتشار فيروس “كورونا”، شهدت الأسواق السورية ارتفاعًا جديدًا في أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة نحو 30%، وسط تراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
وكانت الأمم المتحدة أعربت عن قلقها من ارتفاع أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء سوريا.
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، في 8 من حزيران الماضي، إن “أكثر من 11 مليون سوري حاليًا بحاجة إلى مساعدة إنسانية عاجلة””.
وأضاف دوجاريك أن الأمم المتحدة تشعر بقلق متزايد بشأن الارتفاع السريع في أسعار المواد الغذائية، فقد ارتفعت الأسعار أكثر من الضعف في عام 2019، بنسبة 133% في جميع أنحاء سوريا.