إبراهيم العلوش
زيارتان قام بهما الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى لبنان خلال شهر واحد، وبعد الزيارة الثانية، في بداية أيلول الحالي، زار العراق، وتجنب اتخاذ أي موقف أو أي تصريح تجاه الأوضاع السورية، فهل محت فرنسا سوريا من الخارطة؟
في سوريا ومنذ عشر سنوات، وعلى مقربة من لبنان، تدور أكبر مجزرة في تاريخ الشرق الأوسط، وتتصارع إيران وروسيا وأمريكا وتركيا وإسرائيل بشكل شبه يومي على اقتسام النفوذ في الأراضي السورية، بينما تبدو فرنسا غائبة عن الحضور، ولم تقم بأي مبادرة تجاه الشعب السوري، ولم تستخدم نفوذها لوقف الحرب، ولا في إرساء حل سياسي عادل، ولم يُسجل لفرنسا سوى نشاطين تداولتهما الصحافة سابقًا، هما إسهام معمل “لافارج” الفرنسي للأسمنت بالدعم غير المباشر للتنظيمات الإرهابية، عبر دفع أجور حماية منشآته، وقد تناول القضاء الفرنسي هذا الموضوع، وأسهبت الصحافة الفرنسية في التحدث عنه.
أما الموضوع الثاني فهو إسهام المدفعية الفرنسية مع الطائرات الأمريكية بالتدمير الشامل لمدينة الرقة عبر قصفها طوال أشهر، في عام 2017، بقذائف يعادل مجموع مفعولها مفعول قنبلة “هيروشيما”، وكانت النتيجة تدمير 80% من بيوت الرقة ومنشآتها العامة، وقتل حوالي ستة آلاف من أبناء المدينة ومن اللاجئين إليها، وقد انتهى ذلك القصف بعد عقد صفقة مع “داعش” وترحيل قواتها إلى شرقي سوريا، وقد رصدت أقنية عالمية متعددة هذا الحدث الكارثي.
أما الإسهامات السياسية الفرنسية فهي بالكاد تبدو ظاهرة في الإعلام العالمي، وكان لتصريح الرئيس ماكرون الشهير “بشار الأسد عدو للشعب السوري وليس عدوًا لنا” أثر شديد السلبية في بداية انتخابه رئيسًا لفرنسا عام 2017.
وفي مجال الهجرة واستقبال المهاجرين، استقبلت فرنسا أعدادًا متواضعة من اللاجئين السوريين، ولا يصل عددهم إلى عُشر ما استقبلته ألمانيا، رغم أن سوريا مثل لبنان كانت مستعمرة فرنسية ما بين عامي 1920 و1946.
تضامن الرئيس الفرنسي مع محنة الشعب اللبناني التي حلت به بانفجار ميناء بيروت، في 4 من آب الماضي، وزار بيروت بعد يومين فقط من الانفجار، ونال استقبالًا كبيرًا وكانت خطوته تعبّر عن براعة سياسية في الاستفادة من الفرصة، وقد هتف كثير من اللبنانيين باسمه، ودعوه ليكون حاميًا للبنان ومدافعًا عن شعبه من الطبقة السياسية الفاسدة التي ترعاها إيران وسوريا.
في زيارته الثانية، اجتمع مع رئيس الكتلة النيابية لـ”حزب الله”، النائب محمد رعد، وكان ذلك بمثابة اعتراف دولي بالنفوذ الإيراني في لبنان، رغم أنه دعا النائب رعد وحزبه إلى أن يختار هوية محددة، وهل هم إيرانيون أم لبنانيون؟
وفي الزيارة صرح الرئيس ماكرون تصريحًا مثيرًا تداولته وكالات الأنباء، مبررًا تعامله مع “حزب الله”، قائلًا: “إننا نتعامل مع الجانب السياسي لحزب الله، ولا نتعامل مع جانبه الإرهابي”!
وبين الزيارتين حاولت الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الضغط على النظام السوري من أجل الخضوع لقرار الأمم المتحدة 2254، والتعامل بجدية في مباحثات “جنيف”، إلا أن فرنسا كانت شبه غائبة عن تلك الجهود السلمية!
فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي تحاول ترضية إيران، وإقناعها بالاستمرار في الاتفاق النووي الذي انسحبت منه الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك الاتفاق الكارثي الذي أطلق يدي إيران في الشرق الأوسط، وشجعها على الاستمرار بتدمير سوريا وعلى التدخل في الدول الأخرى كالعراق ولبنان واليمن دون رقيب أو حسيب، فالدول الأوروبية تحلم بالسيطرة على المشاريع الاقتصادية والاستفادة من الثروات النفطية الإيرانية التي يبددها نظام ولاية الفقيه بالإرهاب، وبنشر الصواريخ والميليشيات التي تحاول إحياء مبادئ تعود إلى القرون الوسطى، ولا تحمل أي أمل بالسلام ولا بالتعايش بين سكان الشرق الأوسط.
في زيارته الثانية، ابتدأ الرئيس الفرنسي جولته من بيت المطربة الشهيرة فيروز، وأجبر الطبقة السياسية على اعتماد اسم لرئيس الوزراء هو مصطفى أديب، خلال مدة قياسية من استقالة حكومة حسان دياب، مستفيدًا من دعم الإيرانيين لجهوده، بسبب إعطائه فسحة من الوقت لـ”حزب الله” وأعوان إيران الذين يرضخون لضغط أمريكي شديد أدى إلى تدمير سمعة النظام السياسي والاقتصادي الذي تدعمه سوريا وإيران، فقد انهارت الليرة اللبنانية بنسبة 80%، وأفلست البنوك ولم تعد قادرة على إعادة إيداعات اللبنانيين بالدولار، وتأثر كذلك النظام السوري وأعوانه بذلك الإفلاس، الذي انعكس على الليرة السورية بالمزيد من الانهيار، ووصل الأمر إلى حد المجاعة في المناطق التي يحكمها النظام مع الإيرانيين والروس.
وصلت المساعدات الفرنسية إلى لبنان، وأشرف على جزء منها الرئيس الفرنسي في زيارته الثانية، ووعد بالمزيد منها إذا عدلت الطبقة السياسية اللبنانية من سلوكها وانتهجت نهجًا جديًا من أجل انتشال لبنان من الفشل، بينما لم تصل المساعدات الفرنسية إلى السوريين، ولم نسمع بمبادرة فرنسية ولو صغيرة باتجاه الطلب من إيران وقف تدميرها لسوريا. كانت سوريا غائبة عن تصريحات وعن مبادرات الرئيس الفرنسي، وكأنه كان يجاري وليد المعلم، وزير خارجية النظام، أو يصدّق على تصريحه في بداية الثورة السورية التي تضمنت محو أوروبا من الخارطة.
الجنرال الفرنسي غورو هو من أسس لبنان الكبير عام 1920، والرئيس ماكرون زرع في زيارته الثانية شجرة أرز لذكراه المئوية، وهو من احتل سوريا أيضًا. وقد منحت فرنسا بشار الأسد نفس الوسام الذي منحه ماكرون للمطربة فيروز، واستقبلته في قصر “الإليزيه”، وأسهم الرئيس ساركوزي بتعويم النظام بعد تحالفه العلني مع إيران، وكان لفرنسا دور كبير في مسرحية التطوير والتحديث التي أعلنها بشار الأسد في بداية عهده، وكانت الوصفة الفرنسية هي “التطوير الإداري”، متجاهلة الكارثة السياسية التي كان يمثلها نظام الأسد، والتي قامت أخيرًا بتدمير سوريا وتهجير ربع شعبها، وتصل اليوم إلى طور جديد هو دفن سوريا ومحوها من الخارطة.