رياض علي
مرت أكثر من تسع سنوات على المحرقة السورية، ولم يترك النظام السوري وحلفاؤه والميليشيات الموالية له، وكذلك الميليشيات والفصائل العسكرية الخارجة عن سيطرته، حتى تلك التي تنسب نفسها للمعارضة، جريمة من جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية إلا وارتكبوها بحق هذا الشعب المغلوب على أمره، ولم تقتصر تلك الجرائم على القتل خارج القضاء، والقتل تحت التعذيب، وعمليات الاغتصاب، والإختفاء القسري، والتجنيد الإجباري للأطفال، بل تفنن مرتكبوا تلك الجرائم في تدمير ونهب ممتلكات الناس، لا سيما العقارية منها، بهدف دفع من تبقى من الشعب السوري الذي رفض الانخراط في العمليات العسكرية إلى ترك البلاد، وقطع كل ما سيربطهم بالبلاد في حال التوصل إلى الاتفاق السياسي المرتقب عقده في أروقة الأمم المتحدة مستقبلًا.
وقد ذكرت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة” في تقريرها الصادر عام 2018 أن السلوك غير المشروع الذي انتهجه المتحاربون تسبّب في فرار الناس من بيوتهم، وهذا الأمر سوف يكون له أثر مدمّر على ديموغرافية المجتمع السوري في المستقبل، وهو مجتمع ممزق على نحو خطير الآن، وقد تلقّت اللجنة في حالات كثيرة روايات من أفراد يخشون العودة إلى مناطق استولت عليها القوات الحكومية كالغوطة الشرقية، وريف حمص الشمالي، ومخيم اليرموك، وفي حالات أخرى كما في عفرين، قام أفراد الجماعات المسلحة بعمليات نهب واسعة للمنازل، ولم يُبقوا للمدنيين الذين فروا لتفادي الاشتباكات الشيء الكثير الذي يحملهم على العودة.
واعتبرت المادة الثامنة من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، أن الانتهاكات الجسيمة لـ “اتفاقيات جنيف لعام 1949” تشكل “جريمة حرب”، وأكدت أن تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها دون وجود ضرورة عسكرية تُبرّر ذلك، تشكل إحدى تلك الانتهاكات، وينطبق هذا الأمر سواء تعلق الأمر بنزاع مسلح دولي أو غير ذي طابع دولي، ولا شك أن كلمة الممتلكات الواردة في نظام “روما” تشمل الأموال المنقولة وغير المنقولة (العقارات)، لكن سيكون من الصعوبة بمكان تعقّب الأموال المنقولة ومحاولة إعادتها لملاكها الحقيقيين، بسبب عدم وجود وثائق تثبت ملكية المنقولات عادةً، إلى جانب قابليتها للتلف والاستهلاك مع مرور الزمن، وكثرة المطالبات التي من المنتظر أن تتم في سوريا عند الوصول إلى عتبة العدالة الانتقالية، فلن يكون ثمة متّسع من الوقت لتعقّب ومحاسبة سارقي المنقولات.
لكن بالنسبة للانتهاكات الواقعة على العقارات، والتي تُعتبر “جرائم حرب” كونها وقعت أثناء النزاع المسلح، يُفترض أن يكون لها حظ وافر في مسار العدالة الانتقالية، وبالإضافة إلى المطالبات بإعادة العقارات المسلوبة والمصادرة خلال فترة الحرب إلى مُلّاكها الحقيقيين، يفترض أن تكون هناك محاكمات جزائية بحق مرتكبي جرائم التدمير والاستيلاء على تلك الممتلكات أمام محاكم الجنايات الدولية أو الداخلية، وفقًا لما ستُمليه الظروف والإمكانيات حينها، خاصة بالنسبة للقادة “الكبار”، لأنه ما كانت لتتم كل عمليات السلب والاستيلاء للعقارات لولا رضاهم عنها ومباركتهم لها، وقد اعتبرت المادة (28) من نظام “روما” أن القادة العسكريين يُسألون عن الجرائم المرتكبة من جانب قواتهم، وأن مسؤولية القائد مفترضة عن تلك الجرائم، وإن أراد التملّص من العقاب عليه أن يُثبت أنه لم يكن يعلم بارتكاب تلك الجرائم من قبل مرؤوسيه، وبأنه اتخذ جميع التدابير اللازمة والمعقولة لمنع ارتكابها، وبحسب قراءتنا للوضع السوري نعتقد بأن الغالبية الساحقة من الجرائم التي ارتُكبت، ومنها تلك المتعلقة بالعقارات، تمّت بشكل ممنهج وبرعاية وأوامر القادة المذكورين.
سيكون للملكيات العقارية حظ وافر في مسار العدالة الانتقالية المرتقبة في سوريا، كون توثيق الانتهاكات الواقعة على العقارات، وتعقّب مرتكبيها قد يكون منطقيًا وقابلًا للتحقيق نوعًا ما، مع الاعتراف بأن الأمر لن يكون بالسهولة التي قد يتوقعها البعض، وسيواجَه بالكثير من التحديات، وهذا ما يستلزم من المالكين الاحتفاظ بالوثائق والأدلة التي تثبت ملكيتهم للعقارات التي دُمِّرَت أو سُلبت، وكذلك توثيق الانتهاكات التي وقعت على ممتلكاتهم العقارية، وتحديد الجهة التي قامت بتلك الانتهاكات قدر الإمكان، من خلال الاستعانة بأصحاب الخبرة في مجال التوثيق، لاسيما المنظمات الحقوقية، المحلية والدولية، العاملة في هذا المجال.