زينب مصري | صالح ملص | يامن المغربي
في أماكن وأوقات اختيرت لاجتماعات رسمية وللتخطيط للعمل، وتحت مظلة التدريب على إنتاج تحقيقات صحفية، أقدم مدرب صحفي يعمل في مؤسسات دولية وعربية على التحرش بمتدرباته الصحفيات، بحسب شهادات روينها عن حالات، وصلت في بعضها لاعتداءات عنيفة واغتصاب جنسي.
واحدة من تلك الشهادات تعود لصحفية سورية مجهولة الاسم، شاركت في ورشة حول الصحافة الاستقصائية في كانون الأول 2015 بالعاصمة الأردنية عمان. هناك استغل الصحفي منصبه المهني ليستدرجها إلى غرفته، ثم حاول الاعتداء عليها جنسيًا.
في ظروف لا تختلف كثيرًا، وفي أيلول من العام 2018، لاحقت صحفيًا عربيًا مشهورًا عمل مدربًا ومقدم برامج في عدة قنوات، اتهامات بالتحرش، من صحفيات وعدهن بعقود عمل في مؤسسة دولية يعمل بها ثم حاول استغلالهن جنسيًا، لتتوالى بعدها شهادات من “ناجيات” قلن إن الصحفي سبق له أن تحرش بهن في أكثر من مؤسسة عمل بها على مدار السنوات الخمس الأخيرة.
مع كل حادثة جديدة، يتصاعد الحديث عن ظاهرة التحرش في المنطقة العربية، وتتم الإشارة إلى المؤسسات الإعلامية كواحدة من البيئات التي توفر ظروفًا ملائمة لممارسة سلوكيات تتصل بالتحرش، نظرًا لطبيعة المهنة التي تستدعي الاحتكاك والتواصل مع الصحفيين والمصادر والضيوف، بالإضافة إلى السفر والتنقل المستمر برفقة زملاء العمل في أثناء التغطيات.
في الحالة السورية، لم تسجل حالات لافتة لحوادث تحرش في المؤسسات الإعلامية، أو لم يتم الكشف عنها بصورة علنية على الأقل، وقد حصلت عنب بلدي على عدة روايات غير موثقة عن وجود حالات تحرش على أكثر من مستوى في بعض المؤسسات السورية، من بينها رواية لصحفية تعمل في تركيا، تحدثت فيها عن محاولات تقرب “غير طبيعية”، ومواقف تحرش لفظي تعرضت لها من مديرها عبر مراسلات بوسائل التواصل الاجتماعي، اضطرتها إلى تقديم استقالتها ومغادرة البلاد.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع حقوقيين وخبراء شاركوا بإعداد سياسات النوع الاجتماعي في مؤسسات إعلامية سورية، الإجراءات الواجب على المؤسسات اتخاذها لتوفير بيئات عمل آمنة، تُجنب العاملين فيها المضايقات وحوادث التحرش، وآليات التعامل مع تلك الحوادث بعد وقوعها.
لضبط دوافع التحرش..
إجراءات وتدابير لا بد من تفعيلها في المؤسسات
تشابهت شهادات الضحايا الموثقة في معظم الحالات، وتقاطعت المعلومات الواردة فيها، مجتمعة على أن “المتحرش” استخدم مهنته واستغل موقعه في المؤسسات التي يعمل بها كغطاء لانتهاكاته بحق زميلاته.
وأثارت تلك الشهادات السؤال حول طبيعة الظروف التي تمهد لوقوع حوادث التحرش في المؤسسات الإعلامية، والمسؤوليات التي تقع على عاتق تلك المؤسسات لتجنيب موظفيها مواجهة تلك الانتهاكات.
عرّفت اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرش في العمل لعام 2019 التحرش بأنه: “مجموعة السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أم تكررت، تهدف أو تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي، وتشمل التحرش على أساس النوع الاجتماعي”. |
ظروف ممهدة
في حديث إلى عنب بلدي، بينت المستشارة في الإرشاد النفسي الدكتورة الأردنية رزان عبيد، أن التحرش بشكل عام مرتبط بظروف بيئية غير سليمة، تكمن بوجود أفكار مضطربة لدى الأفراد، أو بسبب تنشئة بيئية تحتوي على مشاكل أسرية أو اجتماعية، وهذا ما ينطبق على الظروف المرتبطة بالأشخاص العاملين في المؤسسات الإعلامية.
وقالت الدكتورة عبيد، التي قدمت تدريبات لمؤسسات إعلامية سورية في إدارة الضغوط النفسية، إن سياسات وقوانين المؤسسة نفسها قد تكون من الظروف التي تمهد لوقوع حالات تحرش في مكان العمل، فعدم وجود إجراءات محاسبة أو قوانين رادعة يسهل على المتحرش القيام بفعلته، في بيئة اجتماعية تضطر الضحية إلى السكوت والتنازل، خوفًا من “نظرة العار”.
فالمؤسسات مسؤولة إلى حد كبير عن حماية موظفيها من حوادث التحرش في أثناء العمل، وتبدأ مسؤوليتها من لحظة توقيع عقود التوظيف، التي يجب أن تحوي بنودًا تتضمن إرشادات تعريفية وإجراءات واضحة للتعامل مع أي سلوكيات تندرج تحت فعل “التحرش”، بما فيها العقوبات التي تقع على “المتحرش” وطرق حماية “المتحرش به”، بحسب الدكتورة رزان عبيد.
التحرش “وجهة نظر”!
مديرة “الجمعية اللبنانية للتكامل الاجتماعي” (سينرجي- تكامل) والمستشارة في قضايا النوع الاجتماعي لمنظمة “Free Press Unlimited”، الدكتورة خاتون حيدر، التي أشرفت على تطوير سياسات النوع الاجتماعي في عدد من المؤسسات الإعلامية السورية، حددت في حديثها إلى عنب بلدي ثلاثة إجراءات أساسية يجب على المؤسسات اتباعها لتجنب أي حوادث تحرش في أماكن عملها.
الإجراء الأول هو تبني كل مؤسسة إعلامية، حتى العاملة منها بشكل افتراضي، سياسة خاصة بالنوع الاجتماعي، تتضمن بنودًا مفصلة تحدد كل تصرف يُعتبر تحرشًا وتصفه، وذلك لأن التحرش يعتبر “وجهة نظر” على الرغم من وجود قوانين محددة له تختلف من مجتمع لآخر، لذا لا يمكن تعميمها على كل المجتمعات والبيئات، وهنا يكمن دور المؤسسة في تحديدها وإطلاع الموظفين عليها.
وأضافت حيدر أن سياسة النوع الاجتماعي تسن القوانين الواجب العمل في إطارها بالمؤسسة، والتي يجب أن تكون جزءًا من عقد العمل، مشيرة إلى ضرورة التأكيد على الموظف لقراءتها وفهمها والتوقيع عليها بشكل خاص عند توقيعه العقد.
كما أن هذه السياسة يجب أن تكون عامة وعلنية، وأن يتم نشرها على الموقع الرسمي للمؤسسة، مع إتاحة إمكانية الوصول إليها لكل من أراد، وبذلك تحمي المؤسسة نفسها بشكل قانوني- أخلاقي من الانتهاكات، وتحمي موظفيها أيضًا.
الإجراء الثاني، بحسب حيدر، هو تحديد آلية التعامل مع الشكاوى بشكل واضح ومفصل داخل المؤسسة، إذ إن الشكوى تكون عادة للمسؤول المباشر عن الموظف، لكن في حال كان المسؤول المباشر هو المتهم بالاعتداء، تكون الشكوى للإدارة العامة، بينما تكون الشكوى لمجلس الإدارة في حال كان المدير العام للمؤسسة هو المتهم.
وأشارت الدكتورة حيدر إلى ضرورة أن يكون الشخص المُشتكى له هو المسؤول عن الحفاظ على سرية الشكوى لحين بدء الإدارة بالتحقيق وتحديد آليته، كي لا تتحول الشكوى إلى قضية “تشهير”، الأمر الذي يستدعي وجود “إثباتات” على الاعتداء، من الممكن أن تكون رسائل بريد إلكتروني أو شهودًا على الاعتداء أو زميلًا آخر تعرض للتحرش من نفس الشخص المُشتكى عليه.
أما الإجراء الثالث فيكمن في ضبط قوانين التحرش، لأنه من الممكن، وفقًا لحيدر، اعتبار استخدام ألفاظ معينة بحق موظفين وإشاعتها بين الزملاء تحرشًا يوجب الشكوى، أو من الممكن اعتبار إشاعة صحفية لخبر مفاده أن زميلها يتحرش بها مع عدم تقديمها شكوى، تحرشًا.
والتحرش في “أشد” مراحله، كما عبرت عنه المستشارة، هو عندما يتحرش رئيس بمرؤوسه داخل إطار العمل، لذلك يجب التفريق بين دعوة زميل للخروج بعد العمل، ودعوة رئيس العمل أو المدرب أو المستشار أو أي شخص بموقع المسؤولية، لأن أي تعامل شخصي منه يعتبر “تحرشًا”، وذلك لخوف الموظف من فصله من العمل، بسبب رفضه دعوة رئيسه.
الأمر الذي ينطبق على الرجال والنساء على حد سواء، وذلك لأن الرئيس في العمل يكون بموقع السلطة، ما يدفع الموظف إلى الرضوخ لدعوته، بينما التعامل الشخصي مع زملاء العمل لا يعتبر تحرشًا إلا في حال تعديه الطلب اللائق، لأن الزملاء بمستوى وظيفي واحد، فيستطيع أحدهم رفض دعوة الآخر دون خوفه من تبعات هذا الرفض.
القانون السوري بعيد عن تجريم التحرش..
محاولات لسد الثغرات القانونية عبر مدونات سلوك المؤسسات الإعلامية
غالبًا ما تكون إنتاجية الموظف مرتبطة بمدى ارتياحه لبيئة العمل التي يوجد فيها بشكل يومي (خمسة أيام في الأسبوع غالبًا)، وبيئة العمل السليمة تتطلب وجود عناصر أساسية لا يجب أن تغفل إدارة المؤسسات الإعلامية عن واجباتها في هذا المجال.
وعلى الرغم من خطورة فعل التحرش داخل بيئة العمل، فإن التشريعات السورية لا تزال خالية من أي مواد قانونية تحظره أو تعاقب عليه، ما يترك الموظفين معرضين للتحرش من دون حماية فعلية، وانعدام الحق في التمتع ببيئة عمل آمنة خالية من أي تحرش جسدي أو لفظي.
ولم يخصص المشرّع السوري أي قانون خاص لمكافحة التحرش على الرغم من التزاماته الدولية في هذا الإطار، إذ نص التعليق العام رقم “23” الصادر عام 2016 من اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة، المتعلق بالحق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية، أنه يقع على عاتق الدول الأطراف (من ضمنها سوريا) التزام أساسي بضمان الوفاء، على أقل تقدير، بالمستويات الأساسية الدنيا من هذا الحق، ويوضح التعليق أنه يترتب على الدول في هذا السياق الالتزام، بتضمين قوانينها “تعريفًا للمضايقة في مكان العمل، يشمل التحرش الجنسي”.
وبذلك يعتبر المشرّع السوري بعيدًا عن فكرة مناهضة التحرش في بيئة العمل التي تسعى لأجلها المنظمات الدولية المناصرة للمرأة، فبحسب تفسير المحامية السورية والمستشارة القانونية بالنوع الاجتماعي (الجندر) وحرية التعبير وقوانين الإعلام، رهادة عبدوش، في حديثها إلى عنب بلدي، فإن القانون يعمل بموجب الدليل المادي، ولكل جرم عقوبة و”لا عقوبة دون نص”، كما لا يعتبر الفعل جرمًا دون نص، أي إن التحرش فعل غير مجرّم في التشريع السوري.
“في القانون السوري لا يوجد جرم اسمه تحرش، بل هنالك أسماء أخرى وأفعال أخرى شبيهة بنسبة 30% فقط بالتحرش”، قالت عبدوش.
ونص قانون العقوبات السوري على “الفعل المنافي للحشمة” في المادة “493”، وهو كل فعل ضد آخر ذكرًا أم أنثى يلحق به عارًا أو يؤذيه في عفته (ملامسة الأعضاء، وملامسة الجسد) وهو لا يحتاج إلى تقرير طبي، بحسب المحامية، كما يشترط عدم وجود رضا أو وجود إكراه أو تهديد أو استغلال لممارسة “الفعل المنافي للحشمة”.
ويعاقب القانون مرتكب “الفعل المنافي للحشمة” بالأشغال الشاقة مدة لا تقل عن 12 عامًا، ويكون الحد الأدنى للعقوبة 18 عامًا إذا ارتكب الجرم ضد قاصر لا يتجاوز الـ15 عامًا.
وفي مادته رقم “504” يعاقب المشرّع كل من أغوى فتاة بوعد الزواج ففض بكارتها بالحبس حتى خمسة أعوام، وبغرامة أقصاها 300 ليرة سورية أو بإحدى العقوبتين، إذا كان الفعل لا يستوجب عقابًا أشد.
وتنص المادة رقم “505” على أن من لمس أو داعب بصورة منافية للحياء قاصرًا لم يتم الـ15 من عمره، ذكرًا كان أم أنثى، أو فتاة أو امرأة لهما من العمر أكثر من 15 عامًا دون رضاهما عوقب بالحبس مدة لا تتجاوز عامًا ونصف العام.
وتعاقب المادة “506” من نفس القانون الفعل المخل بالحياء، الذي يشمل كل فعل يورث الخجل ويحرص الفاعل على ارتكابه بالسر، وتكون عقوبة هذا الجرم الحبس التكديري ثلاثة أيام أو بغرامة مالية لا تزيد على 75 ليرة أو بالعقوبتين معًا.
ويعاقب قانون العقوبات السوري في مواد متفرقة الأفعال التي تتعرض للآداب والأخلاق العامة، دون إطلاق عبارة تحرش على أي من تلك الأفعال.
ويعتبر التحرش، بحسب ما ذكرته عبدوش، مضايقة ذات طابع جنسي تكون على شكل فعل أو لفظ غير مرحب به من أحد الجنسين تجاه الآخر، ينتهك خصوصية حيز الشخص الذي يشعر بالانزعاج تجاهه، ويشعر بتجاوز خط سلامته وشعوره بالأمان.
وطالبت المنظمات النسوية السورية بتضمين قانون العمل السوري نصًا خاصًا بالتحرش بالنساء أو الرجال في أثناء العمل، مثل القانون الفرنسي، وتكون العقوبة ضمن العمل نفسه كالإيقاف عن العمل، وذلك بعد تضمين تعريف خاص بالتحرش بموجب التعريف العالمي، وليس بحسب القوانين السورية، كما أوصت عبدوش.
وهذه التوصية كانت مرفقة دومًا في التقارير التي يقدمها المجتمع المدني بالتوازي مع التقرير الحكومي الدوري كل أربعة أعوام في داخل سوريا، فيما يتعلق باتفاقية “سيداو” (إزالة جميع أشكال التمييز ضد المرأة) التي صدّقت عليها سوريا عام 2003.
مسؤولية المؤسسات في مواجهة التحرش
في ظل غياب تشريع خاص ضد التحرش في سوريا، أوصت المحامية رهادة عبدوش بأن تلتزم المؤسسات الإعلامية السورية بتأمين بيئة عمل آمنة، من خلال اتخاذ إجراءات وقائية لتفادي وقوع فعل التحرش في المؤسسة، أو معالجة الموضوع في حال وقوعه فورًا، عن طريق تضمين مدونات سلوك لحماية العاملين، تلتزم إدارة المؤسسة بتلك المدونة التي يوقع عليها كل شخص يريد العمل ضمن المؤسسة.
ويجب أن تتضمن مدونة السلوك معايير ملزمة لتحسين صورة المرأة في الإعلام والعمل الإعلامي داخل المؤسسة، ويمكن الاعتماد، بحسب عبدوش، على ما نشرته “شبكة الصحفيات السوريات” من “مدونة سلوك” في 2015، اعتمدت على مبادئ حقوق الإنسان، واحترام كرامة المرأة، والتوعية بمفاهيم العنف ضد المرأة على أساس النوع الاجتماعي بكل أشكاله وفي جميع المجالات، وكل من يخالف هذه المدونة ممن وقّع عليها من المؤسسات الإعلامية السورية أو الأفراد، يمكن ملاحقته على الأقل بفصله من المؤسسة التي تعمل أو يعمل بها مرتكب الفعل الذي صدّق على هذه المدونة.
ويجب النص ضمن مدونة السلوك على التزام إدارة المؤسسة بحماية أي مشتكٍ تعرض للتحرش، وبالمحافظة على سرية معلومات صاحب الشكوى، وضم قسم للشؤون القانونية داخل المؤسسة يكون منفصلًا عن مجلس الإدارة، بالإضافة إلى وجود لجنة تحقيق محايدة.
وفي حال لم تُقنع لجنة التحقيق السرية والحيادية المشتكي أو المشتكى عليه ترفع الحالة، بحسب ما ذكرته عبدوش، إلى “هيئة الإدارة والتفتيش”، وقوة قراراتها أعلى من وزارات الدولة وأقل من قوة قرارات مجلس الوزراء من حيث الإلزامية ، وبذلك يجب أن تكون تحقيقاتها حيادية، وهذا فيما يتعلق بالمؤسسات الإعلامية السورية الحكومية.
أما فيما يخص المؤسسات الإعلامية الخاصة، فيجب أن تُرفع حالة الشكوى في حال عدم الوثوق بلجنة التحقيق التابعة للمؤسسة إلى هيئة تحكيم خاصة تمتثل لها المؤسسة، ويجب أن تتضمن عقود تأسيس المؤسسات الإعلامية هذه الآلية.
وضمن آلية النظر في شكوى فعل التحرش، يجب، وفق عبدوش، أن تتضمن تحقيقًا بجميع جوانبه (وثائق، شهود، ملابسات، أدلة)، وذلك بعد التعريف بسلوك التحرش للعاملين والعاملات، والتوعية الدائمة بمخاطره من قبل إدارة المؤسسة.
ومن الأفعال التي تعتبر تحرشًا، بحسب ما ذكرته عبدوش، كل تحديق بطريقة مؤذية للجسم، والمغازلة غير المرحب بها، والتصفير والملاحقة والنكات ذات الطابع الجنسي، والتوجه في الكلام بطريقة جنسية مثل: وصف أجزاء من الجسد، عندما يكشف أحد الأفراد أمام شخص آخر جسده، الطلبات الجنسية والتهديدات كالمكالمات الهاتفية البذيئة، عندما ينشر أحدهم صورًا فاضحة ولو كانت غير صحيحة، الكلام الذي يبدأ بالتلميحات والإزعاجات البسيطة التي يمكن أن تصل إلى المضايقات الجادة والانتهاكات الخطيرة.
ويأخذ التحرش أشكالًا متعددة، بحسب عبدوش، فتعمّد الاحتكاك الجسدي أو الاقتراب المبالغ به من أحد الجنسين تجاه الآخر يعتبر تحرشًا، كما يعتبر الاتصال غير المرغوب به خارج أوقات الدوام لغير ضروريات العمل شكلًا من أشكال التحرش.
“لوم الضحية” وآليات غير واضحة..
أسباب تجعل من حادثة التحرش تمر مرور الكرام
من أبرز الإشكاليات التي تواجهها النساء بالمجتمع السوري في قضايا التحرش الجنسي هي “ثقافة لوم الضحية”، لتبرير التحرش الجنسي ضد الروابط النسوية.
وبسبب هذه الثقافة المهيمنة على المجتمع، يتحول جزء كبير من النقاش في الرأي العام حول كل واقعة من وقائع التحرش داخل المؤسسات عن أسباب تكتم ضحية التحرش عن حادثة الاعتداء التي تعرضت لها، أو حتى تأخرها في الإعلان عنها أو الشكوى ضد من ارتكبها.
ويعتبر شعور الخوف من نظرة المجتمع لضحية التحرش، وإلقاء اللوم عليها في أغلب الأحيان، العامل الأول للسكوت عن الحادثة، بحسب ما قاله الباحث الاجتماعي السوري طلال مصطفى لعنب بلدي.
فالتكتم عن هذا الموضوع يكون بسبب الخوف من الانتقادات التي يمكن أن تحوّل الضحية إلى شخص مذنب، بالإضافة إلى أن الوعي وعمر الضحية يلعب دورًا في مدى سكوتها عن واقعة التحرش من عدمه.
و”هنا يجب أن يكون للمنظمات الدولية دور في رفع مستوى الوعي حول قضية التحرش، وعدم إهانة الضحية لذاتها، واعتبار ما حدث لها انتهاكًا خطيرًا بحقها لا ينبغي التنازل عن الشكوى ضده”، بحسب ما قاله مصطفى.
كما أن الخوف من عواقب الإبلاغ عن حادثة تحرش يكون أيضًا سببًا من أسباب سكوت الضحية عن الحادثة. وبحسب مصطفى، فعند الإبلاغ عن شخصية المعتدي، في بعض الأوقات، لا تضمن الضحية سلامتها الشخصية أو سلامة عائلتها من أي تهديد محتمل بالانتقام نتيجة إقدامها على الإبلاغ عن واقعة التحرش.
ويجب بهذه الحالة أن تتضمن مدونة السلوك في المؤسسة الإعلامية ضمانًا من قبل إدارة المؤسسة بحماية المتضرر من التحرش والشهود من أي تدبير تعسفي أو تمييز انتقامي، خاصة حين يكون المستوى الوظيفي للمعتدي مرتفعًا بالهرم الوظيفي (مدير أو رئيس قسم)، وذلك حماية لحق الأول بالادعاء ولحق الثاني بالإدلاء بشهادة عن الوقائع التي عاينها.
كما أن عدم وجود آلية واضحة لطريقة إجراء شكوى عن حادثة تحرش في مؤسسات العمل الإعلامية، أو عدم وجود أدلة تثبت وقائع يستشف منها وقوع التحرش، يقلل من فرصة إعلان الضحية بأنها تعرضت للتحرش، وفق ما ذكره مصطفى.
وهناك فئة من الأشخاص يحيطهم الخوف من فكرة الإعلان عن حادثة التحرش، كون الأمر يمكن أن يؤدي بالنتيجة إلى خسارة الوظيفة، بحسب مصطفى، حتى وإن وُجدت في بعض الأحيان تعويضات مالية من قبل المؤسسة للضحية المعتدى عليها.
ومن الضروري بمكان أن تضمن إدارة المؤسسة بيئة عمل سليمة يرى فيها الموظف نفسه قادرًا على الإنتاج، كما تزدهر الإنتاجية في المؤسسات التي تؤمّن مساحات عمل مريحة، وهذا بالتالي ينعكس على ولاء الموظف للعمل داخل مؤسسته الإعلامية.
حملات التضامن..
خطوة لكسر الصمت
لجأت الصحفيات إلى رواية شهاداتهن عبر منصات إلكترونية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما باتت تفعله عشرات النساء حول العالم بعد تعرضهن للتحرش، وذلك لسهولة إيصال أصواتهن إلى جميع الناس، كوسيلة من وسائل الضغط، لتظهر حملات مساندة ومطالبة بمعاقبة المتحرشين.
ومع كل حادثة تحرش أو انتهاك بحق الصحفيات، والنساء السوريات، تظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي حملات تضامن مع الضحية، تعتمد على وسوم تتعلق بالحادثة نفسها.
تكمن أهمية حملات التضامن مع ضحايا التحرش الجنسي، بكونها تدفع باتجاه كسر حاجز الصمت لديهم، وألا تبقى هذه القضايا من المسكوت عنها في المجتمع السوري، بحسب ما قالته مديرة “شبكة الصحفيات السوريات”، رولا أسد، لعنب بلدي.
وبحسب استبيان أجرته الشبكة نهاية عام 2019، تعرضت 25% من الصحفيات السوريات إلى تحرش جنسي، بينما تعرض 30% للإساءة بسبب جنسهن، بينما أكدت 70% من المشاركات زيادة في كم العنف الذي تتعرض له الصحفيات.
وترى الناشطة النسوية مي العربي، أن حملات التضامن قادرة في البلاد التي غابت عنها الديمقراطية، على رفع الوعي لدى المجتمع حول قضايا التحرش والعنف، ومن الممكن أن تؤدي إلى تغيير في القوانين الخاصة بحماية النساء والصحفيات، بشرط أن تكون حملات متواترة قادرة على الضغط على الحكومات.
ولا تتوقف أهمية الحملات على الضغط على المتحرشين، ومنع جهات قانونية أو المؤسسات العاملين فيها من حمايتهم أو السكوت على سلوكهم، بل يمتد أثرها إلى منع من يفكر بالتحرش من الإقدام على هذا الفعل.
وتحدثت اختصاصية العنف القائم على النوع الاجتماعي في منظمة “إحياء الأمل”، نسرين الموسى، لعنب بلدي، عن إمكانية الاستفادة من حملات التضامن عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، كونها تحول القضية إلى قضية رأي عام، وهذا أمر تراه الموسى إيجابيًا لتشجيع النساء على عدم السكوت، بالإضافة إلى أنها أثبتت نجاحها، خاصة في حشد الدعم والمناصرة للضحية.
وتقدم حملات وسائل التواصل الاجتماعي الدعم النفسي ولو بشكل مؤقت لضحايا التحرش، وهو ما يشجع الحالات الصامتة على سلوك الدرب نفسه والبوح بقصصهن وبالتالي الضغط نحو تحرش أقل، بحسب رأي نسرين الموسى.
حملات التضامن.. كيف تؤثر على القوانين الداخلية للمؤسسات الصحفية
بقدر ما تلعب الحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهمًا في دعم النساء اللواتي قررن البوح بما تعرضن له من انتهاكات، لكنها غير كافية برأي الناشطة النسوية والسياسية الكاتبة ميا الرحبي.
وترى الرحبي في حديثها لعنب بلدي، أن على منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية، العمل على استراتيجية كاملة لحماية المرأة، وذلك عبر تأمين الدعم الكافي لها.
ولا يتوقف أثر حملات وسائل التواصل الاجتماعي على مناصرة الضحايا فقط، بل إن مهمتها أيضًا تمتد للضغط على المؤسسات الصحفية لتوفير حماية أكبر للصحفيات، وعدم حماية المنتهكين والمتهمين بالتحرش، وسن قوانين تساعد على هذا الأمر، وهو ما يساعد بشكل مباشر على الحد من الانتهاكات بحق الصحفيات السوريات العاملات في المؤسسات الإعلامية السورية.
وفي حين ترى الناشطة النسوية مي العربي، أن حملات التضامن قادرة على دفع المؤسسات الصحفية السورية نحو تحرك أوسع باتجاه محاربة ظاهرة التحرش، ترى مديرة “شبكة الصحفيات السوريات”، رولا أسد، أن هذه السياسات والقوانين يجب أن تكون واقعية، وهذا يبدأ بحسب رأيها من تسجيل المؤسسات بشكل قانوني في البلد الذي توجد فيه.
وقالت الناشطة ميا الرحبي، إن حملات التضامن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قادرة على دفع المؤسسات للأخذ بعين الاعتبار أن هناك من سيدعم النساء المتعرضات للانتهاك.
في حين ترى اختصاصية العنف القائم على النوع الاجتماعي في منظمة “إحياء الأمل”، نسرين الموسى، أن هذه الحملات تسهم في تطبيق القوانين التي تضعها المؤسسات على أرض الواقع، لا كأوراق تُعرض على الداعمين لإظهار المؤسسات بأفضل صورة.
وتدفع هذه الحملات وفقًا لموسى باتجاه تنفيذ القوانين، ووضع مواد لمعاقبة الأشخاص المعتدين ترقى لدرجة الفصل والوضع على اللائحة السوداء بالنسبة للعمل.
وأهم ما تواجهه حملات التواصل الاجتماعي للتضامن مع المتعرضات للتحرش والانتهاكات الأخرى بحقهن، هو قصر مدة هذه الحملات، التي تستمر لعدة أيام ثم تنتهي.
ويؤثر قصر المدة وغياب الديمومة عن هذه الحملات على الأثر الذي من المفترض أن تحرزه في الوعي المجتمعي، أو على المؤسسات الصحفية، بينما ترى مي العربي أن هذه الحملات القصيرة يمكن أن تؤثر على المدى البعيد، أما الحملة الواحدة فلا أثر يذكر لها.
لكن مديرة “شبكة الصحفيات السوريات” ترى أن صفة الديمومة تأتي من التضامن الدائم، إذ إن مواقف الأفراد والمؤسسات هي ما يعطي هذه الصفة لحملات التضامن، وهي مهمة للناجيات لأنها تحوّل الأمر إلى قضية عامة، وتدفع باتجاه قوانين للحد من التحرش، لأن هذه الحوادث ليست حالات فردية، وكلما زاد الحديث يزيد التراكم.
ورغم الأثر المتواضع للحملات المتضامنة لقصر المدة الزمنية، وافتقادها صفة الديمومة، فإن ميا الرحبي ترى أن هناك مؤشرات إيجابية ناتجة عنها من خلال دعم الضحايا ومناصرتهن وتعالي الأصوات لفضح الانتهاكات ولو أنها قليلة، إلا أن هناك دعمًا كبيرًا من النساء والرجال، لذا “أتفاءل بأن حوادث العنف لن يُسكت عنها بعد اليوم، على الأقل من الأشخاص الذين تصل أصواتهم إلى الرأي العام”.
نصائح للوقاية من التحرش في أثناء ممارسة العمل الصحفي
في تقرير بعنوان “الحفاظ على الحدود مع المصادر والزملاء والمشرفين”، صادر في كانون الأول 2017، استنادًا إلى مقابلات مع صحفيات ومصادر أخرى، قدم “مركز دارت للصحافة والصدمة” نصائح للصحفيات للوقاية من التحرش في أثناء ممارستهن العمل الصحفي، وتعليمات في حال وقوع حادثة تحرش من قبل مصدر أو زميل أو رئيس في العمل.
وذكر التقرير أنه من أجل تقليل فرص المضايقات من المصادر الصحفية في أثناء العمل، يجب على الصحفيات اختيار مكان عام “آمن” للاجتماعات عند الالتقاء بمصدر لا يعرفونه مسبقًا، لتجنب المواقف التي قد يفسرها المصدر على أنها تقع خارج حدود المهنية، من حيث الموقع أو التوقيت.
ويجب على الصحفيات، بحسب التقرير، تجنب الخلوة مع أي شخص لا يعرفنه أو يثقن به، ما يعني تجنب الصحفية دعوة المصدر إلى غرفته الفندقية أو الذهاب إلى أماكن المصدر الخاصة، والطلب من زميل أو صديق مرافقتها كمصوّر أو مدوّن ملاحظات، في حال لزم الأمر، لأن وجود صحفي آخر في المقابلة يوضح أنها مقابلة عمل.
وينصح التقرير الصحفيات، في حال ذهابهن للتغطية الصحفية في مكان بعيد أو خاص، بتنبيه زملائهن وإعلامهم بمكان التغطية والأشخاص الذين سيقابلنهم والوقت المتوقع لعودتهن.
كما ينصح بمراعاة اللباس والتصرف بحيادية واحترافية، خاصة عند مقابلة المصدر لأول مرة، ووضع الحدود في التعامل منذ البداية، من خلال الكلمات المنتقاة ونبرة الصوت ولغة الجسد والملابس، والحفاظ على مسافة مهنية ودية لكن جادة في العلاقات مع المصادر.
ونبه التقرير إلى ضرورة انخراط الصحفيات أو بنائهن شبكة تشمل نساء عاملات في المجال الصحفي أو شبكة من الزملاء الموثوق بهم بشكل عام، لمشاركتهم المعلومات حول “المتحرشين” أو الأشخاص الذين لا يُراعون الحدود المجتمعية، مع تقديم الدعم المعنوي والنفسي.
بالإضافة إلى ضرورة التضامن والدفاع عن الأشخاص الذين يتعرضون للمضايقات، وإبلاغ المشرفين بهذه السلوكيات، والضغط على الآخرين، بمن فيهم الرجال، للتحدث عند مشاهدتهم حوادث مضايقات أو تحرش.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :